بما أن مزاج الواحد منا لا يمكن قولبته أو تأطيره أو التحكم به، باعتبار أنه انعكاس لحياتنا وما يصادفنا فيها من أتراح وأفراح، مِن شقاء وتعب، مِن فكاهيات وتراجيديات، مِن أثقال الذاكرة التي تدفع إلى الأسف على الكثير من موجودات الدنيا، أو تكون بالعكس من ذلك، فتبدأ مِن حيويةٍ تدعو للانطلاق الحر إلى خمولٍ يدفع صاحبها للجمود والتكلس، وكما أنه صعب جدًا وليس بمقدور أي واحد منا مهما كان ذا جاهٍ أو سلطانٍ أو ثراء بأن يحصر نفسه في منطقة واحدة من المناطق المذكورة، فالشيء نفسه ينسحب على طبيعة ونوع المواد التي يود قراءتها، ومزاج القارئ حيال القراءة أشبه بمشاعر الحب التي من المستحيل التحكم بنبضها أو جعلها تمضي في سكة ثابتة أو تحاكي هواجس الآخرين، وفيما يخص المقروءات ففي هذا الصدد يشير الكاتب الفرنسي دانيال بناك إلى أن "القراءة لا تخضع لتنظيم الوقت الاجتماعي، بل هي كالحب أسلوب حياة، فلا يمكن السؤال في معرفة إن كان لديك الوقت للحب أم لا".
القراءة لا تخضع لتنظيم الوقت الاجتماعي، بل هي كالحب أسلوب حياة، فلا يمكن السؤال في معرفة إن كان لديك الوقت للحب أم لا
وكتجربة شخصية ففي بعض الفترات الزمنية التي كنت خاضعًا لمزاجي في القراءة، فلم أكن ألتفت لأي كتاب يتم الحديث عنه أمامي مهما كان الكتابُ لعظيمٍ من الراحلين، أو ذي مكانة عالية في دنيا المكتوبات من المعاصرين، كما كنتُ أتضايق كثيرًا عندما أكون محرجًا أو شبه مجبر على قراءة كتاب ما، لأن القراءة وقتها تكون شبيهة بأداء أي واجب مدرسي أو سياسي أو اجتماعي، فأقوم بأدائه ولكني لا أشعر بأي لذة معه، ولا أتصور بأني سأستفيد من تلك القراءة لاحقًا، إنما فائدتها مقتصرة على زمن القراءة والغرض منه، لذا أتشوق الآن لقراءة الكثير من الكتب التي قرأتها أوان المراهقة أو بداية البلوغ، باعتبار أن القراءات في تلك المرحلة كانت إما من باب المحاكاة أو تأثرًا بالآخرين الذين كانوا يروجون لكتب معينة أو لأنهم كانوا محط تقدير لدينا آنذاك، لذا كنا ننتبع أثرهم في المواضيع السياسية والفكرية والثقافية، بينما القراءة الحقيقة هي التي يكون لديك أنت دافع ورغبة وتوق جارف للغوص فيه، أو نهل محتواه من دون أيّ تأثير للآخرين عليك.
اقرأ/ي أيضًا: أدب من هذه الأرض
كما أن مزاج القارئ له علاقة بطبيعة العمل وطبيعة المواصلات وطبيعة الجلسة في البيت، ومثلما أن واحدنا غالبًا ما يكون فطوره بخلاف وجبة الغداء وبخلاف وجبة العشاء، كذلك يكون حالنا مع القراءة في الكثير من الأحيان، ومنها أذكر أني انتبهت إلى نفسي يومَ راقبتُ سلوكي مع المواد المقروءة في الشهر الأوّل من عام 2021 فرأيتني أقرأ من عدة كتب في يوم واحد، منها رواية لوليتا التي وودت قراءتها للمرأة الثانية وحيث تصورت بأني لم أفقه منها شيء في قراءتي الأولى، لذا كنت أقرأ منها ساعة قبل بدء الدوام وساعة بعد انتهاء الدوام، أي أقرأ منها ساعتين في اليوم، وهذا كان يتم في المكتب، أما في الطريق الفاصل بين مكان العمل وحي "بكر كوي" في مدينة اسطنبول فكنت أقرأ في المترو العمل الشعري المشهور لـ آلن غينسبوغ ألا وهو "عواء وقصائد أخرى" ترجمة سركون بولص، بينما في المسافة الواقعة بين حي "بكر كوي" و"باغجيلار ميدان" الذي كنت أقطعه بالأتوبيس ذهابًا وإيابا فكنت أقرأ مختارات قصصية للكاتب صمد بهرنكي مترجمة من الفارسية إلى اللغة الكردية من قبل جعفر آجار، وفي الليل إذا لم يكن ثمة عمل مطلوب مني أداؤه أو خلي البيت من الزوار ومن الواجبات المنزلية، فكنت أتناول الكتاب الفلسفي لـ عبد السلام بنعبد العالي "لا أملك إلاَّ المسافات التي تبعدني" وأقرأ منه بضعة صفحات قبل أن آوي إلى فراشي، وذلك كله في نفس الفترة الزمنية، إذ أن ذلك الأمر فرضه الظرف والمناخ والمزاج عليّ ولم أخطِّط له، وليس لأنه كان قراري الصارم، إنما كانت وراءه أيضًا طبيعة العمل والمسافة ووسائط النقل.
ولأن القراءة ينبغي أن لا تخضع لأيّة إملاءات أو إحراجات من الآخرين، لذا بودي أن أمر على حالة واقعية في الإطار الذي نتكلم عنه، إذ مرت فترة في التسعينيات كان هناك بعض الأشخاص متيمين بأصواتٍ معينة ويودوننا مثلهم ننطرب لما ينطربون له، حيث كنا نراهم يضعون كاسيتات نجومهم المفضلين في جيوبهم، ومتى ما سنحت لهم الفرصة عرضوا منتوجهم كحال العاملين في مجال التبشير الديني، أو إذا ما صودف وأن جلسوا بجانب سائقي الميكروباصات حتى كنا نراهم وقد طالبوا السائق بتشغيل الكاسيت الذي بحوزتهم، فارضين بذلك ذوقهم الموسيقي أو الخطابي على جميع من في الحافلة، ومن هؤلاء المعروفين في محيطي الاجتماعي كان أحدهم كبير في السن وأينما سافر أو حل تراه محتفظًا بكاسيت من مجموع كاسيتات الشيخ أحمد حسون الذي كانت خطبه تجذب الآلاف بكونه كان يتحدث بما لم يكن يتجرأ الحديث عنه أيّ شيخ آخر في سوريا، والذي صار فيما بعد مفتي الجمهورية ومن المقربين جدًا من رأس السلطة، هذا بعد كل تلك الخطابات النارية على منابر جوامع مدينة حلب، والشخص الآخر كان في مقتبل العمر ومن معجبي فنان شعبي في منطقتنا يدعى "محمد علي تجو"، وكان الاثنان في أغلب الأحيان يجلبان النفور على صنيعهما، إلاَّ أنه من حسن حظهم وسوء حظ المحيطين بهم، أنهم لم يكونوا قادرين على قراءة علامات الامتعاض في وجوه المحيطين بهم.
القراءة الحقيقة هي التي يكون لديك دافع ورغبة وتوق جارف للغوص فيه، أو نهل محتواه من دون أيّ تأثير للآخرين عليك
اقرأ/ي أيضًا: سحر الكتب.. عن إعادة اقتناء الكتاب نفسه مرةً تلو الأخرى
وفي الختام، فمع جل الاحترام لمن يخبرنا عن كتاب جديد، ومَن يدلنا على مجلدٍ قديم مهم فاتنا قراءته، ومن جاءنا زائرًا وبحوزته بعض القراطيس عساه يقرأها في إجازته التي سيقضيها في مضاربنا، قائلين له إن الكتاب مع أهمية قراءته هو مثل الأغاني والموسيقى، فكما أن ثمة أناس يحبون الكلاسيكيات، وآخرون يستمعون للفلكلور، وغيرهم لا يطربهم غير الأغاني الحديثة والألحان المعاصرة، كذلك الأمر بالنسبة للكتاب، فما تحب أن تقرأه ليس بالضرورة أن يميل إليه غيرك، وما تراه من الأساسيات القراءاتية في الحياة قد يكون بالنسبة لغيرك قابعًا في آخر سلم الاهتمامات، لذا من الأفضل أن لا تحاول وبالأحرى أن لا يحاول أيّ قارئ إحراج قارئ آخر بأنواع معيّنة من الكتب، لأن القراءة حاجة شخصية مثل الطعام والشراب، والقراءة خاضعة لمزاج الفرد كما هو الغناء والموسيقى.
اقرأ/ي أيضًا: