يمكن أن نقول كثيرًا كثيرًا في ليلة محاولة الانقلاب وإسقاط الشعب التركي له، إلا أن أهم ما يعنينا فيها كعرب جلسنا أمام شاشات التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعي نتابع ثانية بثانية هو الدرس الإعلامي، أو الكشف الإعلامي الذي كان مكثفا ومختصرا ومباشرا، بل ومختزلا لحديث طويل.
طول السنوات الماضية، منذ نزل التونسيون إلى الشوارع لإسقاط دكتاتورهم، بدأ عرض الإعلام العربي والإعلام الموجه للعرب المستمر حتى اليوم، وما يعنينا منه هنا، الإعلام المعادي للديمقراطية أو المدعوم والموجّه من مناهضي الديمقراطية أو الدول الجهات الغربية. طول تلك السنوات، ونحن نشاهد صناعة التلفيقات والزيف وإثارة القلاقل وإشغال الرأي العام العربي بقضايا وتفاصيل بعيدة عن تناقضاته الرئيسة. وطوال الوقت، كانت الماكينات الاحترافية، تلك الممولة والمستقرة في دول أوروبية من فرنسا وحتى بريطانيا، تنسج رسائلها بذكاء وتفلح في دسها للمتابع العربي، المبهور بالأسماء العريقة والمدارس الصحفية المهمة، والمعجب أبدًا بمنتجات أوروبا الإعلامية والمصدق لها بعد عقود التجهيل والتزييف التي تولتها النظم العربية.
السؤال المهم، لماذا تعنى وسائل الإعلام الأوروبية الناطقة بالعربية إلى هذا الحد بتوجيه كل هذا المحتوى السلبي عن تركيا نحو جمهور عربي!
طوال الوقت ظل مربكًا وصعبًا أن تشرح بجهد طويل الرسائل الخفية والتوجهات المبطنة لتلك القنوات الناطقة بالعربية، ربما هو الاحتراف الذي يجعل كشف الأمر معقدًا، ومع توفر الشواهد على نزعات تطييفية وتلميعات لعسكر دول عربية وتلطيف لصورة دكتاتوريات مجرمة، إلا أن نقاشها ظل بحاجة لمختصين ولجهد طويل من الرد والتدليل، ناهيك عن آلية لطرحه على الجمهور العربي وتحذيره من الغايات المستترة.
اقرأ/ي أيضًا: هجوم نيس.. صفعة "يوم الباستيل"
لذلك كانت ليلة تركيا حدثًا جللاً، ففي أقل من ليلة بدا كل شيء واضحًا ومكثفًا ومكشوفًا. بدا وكأن ثمارًا ستقطف وشغلًا طويلاً سيحصد من خلال انقلاب عسكري، سارعت وسائل إعلام ضخمة لتبنيه والحديث باسمه ونشر أخبار تمكنه من البلاد بل وطلب أردوغان اللجوء وغيرها من الأكاذيب. ثم انقلب كل شيء لتبين الصورة واضحة، وينكشف في غضون ساعتين كيف تعمل وسائل إعلام كهذه، وكيف تلقي كل قيم الدقة والمهنية وعدم الانحياز جانبا في لحظة حصاد متوقعة ضد خصم سياسي.
منذ أشهر طويلة ووسائل الإعلام الأوروبية الناطقة بالعربية مشغولة بتركيا، ما يمكن أن يكون خبرًا محليًا تركيًا يتصدر نشراتها، أي معارض للحكومة والحزب الحاكمين في تركيا هو ضيف دائم بصرف النظر عن قيمة ما يقول، ومعلومات دون مصادر واضحة، أو تنسب إلى مصادر صحفية غير معلنة، ثم طرح برامج التفاعل والتصويت على الجمهور العربي بمواضيع وأسئلة كلها مشغولة بتركيا. صار السؤال المهم، لماذا تعنى هذه الوسائل الإعلامية إلى هذا الحد بتوجيه كل هذا المحتوى عن تركيا نحو جمهور عربي!
ثمة ريبة هائلة في كل هذا الجهد الموجه للجمهور العربي، لماذا لا تطال التغطيات دولًا بثقل ووزن إقليمي لا يقل أهمية عن تركيا؟ لماذا كل اعتقال لصحفي في تركيا خبر رئيس في حين لا تحضر إيران مثلا في أجندة هذه القنوات؟ دعنا من إيران، لماذا لا تحضر الدول العربية نفسها؟ مع أن جمهور هذه القنوات عربي حصرا! ما معنى أن يكون الانشغال بالشأن التركي أكبر من الانشغال بالشأن الأوروبي نفسه الذي تنتسب إليه القنوات أصلا! ما الذي يجعل تركيا موضوعا مهما لتشكيل الرأي العام العربي حياله لدى واضعي سياسات هذه القنوات الحكومية في النهاية؟
الليلة، كان التلهف على الانقلاب ونجاحه مكشوفًا تمامًا، ففي تركيا ونظامها السياسي وحالها اليوم ما ينبغي تغييره، هذا الموقف تكشف في التغطيات، "تركيا ضعيفة مليئة بالمشاكل والفساد، تركيا تدعم الإرهاب، لا يمكن المواءمة بين نظام علماني وهوية إسلامية، خصوم النظام في الداخل كثر ومحقون وقادرون على إسقاطه". كلها رسائل انشغلوا بها لأشهر وتكشفت بوضوح سافر الليلة. تمامًا كما تكشف سابقًا الموقف الداعم لنظام الأسد إعلاميًا في ذات وسائل الإعلام، وظلت المعادلة واضحة، تغذية المشاهد العربي بكل ما يشوه الجهود لإزاحة الأسد ثم تسويقه كخيار أسلم عبر مقابلات مطولة تختفي فيها شراسة الصحفيين الأجانب، وتفتيت الإجماع حول معارضي وجوده والقوى الديمقراطية المؤيدة لهذا التوجه في دول عربية أخرى.
قبل ليلة تركيا كان واردا أن يتساهل أحدنا مع من يقتبس هذه الوسائل وينقل عنها ولكن لا بد من القول بوضوح إن هذا الفعل التواصلي البسيط صار لا أخلاقيًا
إن الواضح اليوم، هو كيف تعمل هذه الوسائل الإعلامية كمؤسسات حكومية في دول ديمقراطية تحمل شعارات الديمقراطية وتتغنى بها، ولكنها تسخر جهودها بشكل سافر اليوم لدعم كل ما هو غير ديمقراطي عربيًا، بل وفي الإقليم. وتجمل صور الديكتاتوريات ومليشيات الطوائف تبعًا لموقف سياسي بات جليًا أنه لا يصب في صالح الشعوب العربية.
وإن كان لهذه الليلة أن تشكل خطوة لنا كعرب نحو الديمقراطية وحرية الشعوب وانعتاقها من الاستبداد والعسكر، فهو متصل بإعادة النظر في كل هذه الوسائل الإعلامية والانتفاض عليها وعلى تصدرها للمشهد، بل والنظر بريبة لمن تصدر من وجوه وما تطرح من نقاشات وقضايا. إن هذه الوسائل التي تندرج تحت ما يسمونها القوة الناعمة، تتحول لسند لمن يسفكون الدماء في منطقتنا، وتسهم في تشويش التصورات لدى الجمهور العربي عن خياراته وانحيازاته السياسية.
قبل ليلة تركيا هذه، كان واردا أن يتساهل أحدنا مع من يقتبس هذه الوسائل وينقل عنها، أو ينحاز لمتابعتها، ولكن لا بد من القول بوضوح إن هذا الفعل التواصلي البسيط صار لا أخلاقيًا، بدءًا من أخلاقيات المهنة الصحفية، وصولا إلى أخلاقيات احترام دماء الشعوب التي تمحى كأنها لم تكن. ثم في نهاية المطاف، أخلاقيات احترام البشر لعقولهم، كحد أخير يجب على أي منا ألا ينتهكه بحق نفسه. أما الوسائل المدعومة من دكتاتوريات الدم ومموليها الخائفين من أي توجه ديمقراطي، فهذه أدنى من نقاش ما تقول، هنا يكفي النظر في الصورة أدناه...
اقرأ/ي أيضًا: