انطلقت اليوم السبت 24 آذار/ مارس 2018 أعمال مؤتمر "طلبة الدكتوراة العرب في الجامعات الغربية"، الذي يعقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات على مدى ثلاثة أيام في الدوحة. وافتتحت الدكتورة دانا الكرد، الباحثة في المركز العربي، أعمال هذا المؤتمر الذي استقبلت لجنته العلمية 250 مقترحًا بحثيًا، وقبلت مشاركة 83 باحثًا ينتمون إلى أكثر من 40 جامعة غربية في أوروبا وأستراليا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية، من تخصصات متنوعة في العلوم الاجتماعية والإنسانية. وأكدت الكرد أن هذا اللقاء الأكاديمي يعتبر محطة أخرى من محطات تحقيق رسالة المركز العربي المتعلقة بتعزيز البحث العلمي المنهجي في العلوم الإنسانية والاجتماعية والمرتكزة على رؤية نهضوية ملتزمة بقضايا أمتنا العربية.
دانا الكرد: يعتبر هذا اللقاء الأكاديمي محطة أخرى من محطات تحقيق رسالة المركز العربي المرتكزة على رؤية نهضوية ملتزمة بقضايا أمتنا العربية
ثم ألقى الدكتور عزمي بشارة، المدير العام للمركز، محاضرةً عامةً، تحدث فيها عن المنطلقات والأسس التي أطرت تأسيس المركز العربي بوصفه مركزًا متخصصًا في العلوم الاجتماعية والإنسانية في مرحلةٍ تراجع فيها الاهتمام بمثل هذه العلوم في المنطقة العربية، كما تحدث عن الفكرة التي تقف خلف تأسيس معهد الدوحة وعقد مؤتمر طلبة الدكتوراه.
اقرأ/ي أيضًا: المركز العربي للأبحاث..الأكاديميا الحرة في مواجهة البروباغندا والاستبداد
عزمي بشارة: موقف الباحث أو المثقف أخلاقي بالضرورة
استهل عزمي بشارة محاضرته بالتمييز بين المثقف والخبير من ناحية التدخل في الشأن العام، والمسألة لديه محسومة لصالح المثقف، فهذا الأمر، في رأيه، ليس ادعاءً، وإنما هو قائم على أساس العلم والمعرفة؛ إذ أكد أن الفرق بين المثقف والخبير ليس في العلم فحسب - ولا سيما أن العلم معطى ثابت بكل أصوله وتخصصاته، ويجب أن يكون شرطًا في الحالتين، سواء كان خبيرًا في خدمة مؤسسة ما أو دولة أو حكومة أو حركة نضالية أو حزب؛ فمن الواجب امتلاك الأدوات العلمية اللازمة – وإنما أيضًا بموقف المثقف العمومي عند تدخله في الشأن العام، فالمثقف يجب أن يكون موقفه أخلاقيًا بالضرورة.
عزمي بشارة: الفرق بين المثقف والخبير ليس في العلم فحسب وإنما أيضًا بموقف المثقف العمومي عند تدخله في الشأن العام
ورأى بشارة أن المحرك الأساسي للضلوع في مسألة النهضة يتطلب من دون أدنى شك الأدوات العلمية اللازمة، وكذلك الموقف الأخلاقي، والاستعداد للخوض في الشأن العام وعدم الخوف، وهذا ما يقود إلى تمييز آخر، وهو التمييز بين "الموضوعية" و"الحياد". وفي هذا الصدد، قال: "لكي نخوض في العلوم الاجتماعية والإنسانية، أو أي علوم أخرى يجب أن نتوخى الموضوعية، وهي ليست بالضرورة حيادًا، بمعنى اتباع المنهج العلمي وتوخي البحث عن الحقيقة ومحاولة التدقيق في المعطيات وإبعاد أي تدخل في عملية الاستدلال أو الاستنتاج"، أما الحياد، فهو مسألة أخلاقية، إذ من الممكن أن يكون المرء موضوعيًا ولكن غير محايد في القضايا التي تهمّ أمته وشعبه.
وقد عاد بشارة إلى كتابه الصادر عام 2010 في المسألة العربيّة: مقدّمة لبيان ديمقراطي عربيّ، مشيرًا إلى ضرورة طرح سؤال الديمقراطية ونظام الحكم حاليًا من دون الالتفاف حوله، مشددًا في هذا السياق على دور النخب المثقفة في الوطن العربي؛ إذ لن يكون هناك تحول ديمقراطي من دونها. إن مسألة المثقف الديمقراطي والمنحاز للديمقراطية، هي موقفٌ يجب أن يتبناه المثقف العمومي، وهو ما ثبت في الثورات العربية 2011، فلم يكن هناك حزب ديمقراطي يشكّل حالة جماهيرية تقود الحراك الثوري وترشده.
اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة.. مداخلة في إشكاليات المصطلح العربي
أمام هذا المشهد، كان التفكير ضمن الإمكانات المتاحة لتأسيس مركز عربي للأبحاث يثير قضايا المجتمعات العربية، ومن بينها قضية الديمقراطية. وأكد بشارة أن المركز العربي ليس "مخزن فكر"Think Tank، بل هو مركز عربي للأبحاث. إنه عربي بوصفه يضم باحثين عربًا ولغته عربية، وليس بالمعنى الإثني، بل بمعنى أن ثقافته عربية، فهو يضم غير عرب أيضًا. وتوجد في المركز وحدة لتحليل السياسات، توازي وربما تفوق عمل مخازن الفكر في الولايات المتحدة الأميركية، لكنها وحدة في مركز أبحاث يطرح قضايا فلسفية واجتماعية وتاريخية وسياسية. وقال: "نحن نتخبط في موضوعات عديدة، إلا قضية المنهج العلمي، والرغبة في خدمة الشأن العام، فحتى بعد تأسيس معهد الدوحة، ما زلنا نتخبط في أسئلة تدور حول الإضافة التي يمكن أن نضيفها في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وفي أسئلة أخرى تتمحور حول معنى تعدد التخصصات. إن ما نريده من تعدد التخصصات، ليس فقط، أن ننتقد أبحاث المؤسسات الغربية والنظريات التي تنتجها حول مجتمعاتنا، إنما الهدف هو تقديم بديل، فالإنتاج المعرفي يتطلب أن يقوم الباحث العربي في هذه المرحلة على وجه التحديد بمنهج متعدد التخصصات؛ لأن الظواهر مركبة ولا يمكن مقاربتها من زاوية نظر واحدة. ومن ثمّ، فإن هدف تأسيس معهد الدوحة للدراسات العليا هو أن ننشئ باحثًا عربيًا متخصصًا لديه فكرة جيدة عن التخصصات الأخرى، ويتعين عند قيامه ببحث موضوع ما أن يكون مطلعًا عمومًا على الإشكاليات الأساسية في العلوم الاجتماعية والإنسانية".
عزمي بشارة: يجب أن يكون موقف المثقف أخلاقيًا بالضرورة
وأكد بشارة أن المركز يسعى لتقديم مساهمة لفهم الإشكالات التي تواجه المنطقة العربية وتفسيرها، وبخاصة أن النظم السلطوية لا تستثمر في العلوم الاجتماعية والإنسانية، بل تعتقد أن التنظير فيه بلا معنى، وأن المتعلمين يجب أن يكونوا إما خبراء أو تقنيين، وأن التخصصات الإنسانية والاجتماعية يجب أن تطرح للطلبة ذوي المعدلات المتأخرة. ومن ثمّ، فإن تأسيس مركز أبحاث يتفرغ لدراسة العلوم الاجتماعية والإنسانية ويحترمها، وكذلك تأسيس معهد للدراسات العليا، هو في حد ذاته أمر مهم، ويقدم خدمة للمجتمعات العربية وبخاصة أن توجهه عربي.
المركز العربي والمساهمة في إنتاج المعرفة عربيًا
وأكد بشارة أن المركز العربي يُسهم على نحو حقيقي في فهم قضايا الأمة العربية، فقد أسهم منذ تأسيسه في إصدار أبحاث أكاديمية عربية محكّمة، إذ أصدر نحو 300 كتاب، نصفها من إنتاج المركز، إضافة إلى إصدار أربع دوريات علمية محكمة وكتاب سنوي "استشراف"، وبذلك يقدم المركز خدمة للباحثين العرب للمساهمة في إنتاج المعرفة العربية، والتي يهتم من خلالها بإنتاج معرفة علمية عربية رصينة. وتابع بشارة أن المركز نظّم منذ تأسيسه نحو 70 مؤتمرًا بحثيًا أكاديميًا، أما هذا المؤتمر فهو الأول لطلبة الدكتوراة العرب في الجامعات الغربية. إننا نستخدم المؤتمرات كطريقة لطرح الأجندة البحثية للمركز، فأجندتنا تعتمد على الأوراق التي تصل من الباحثين من خلال طريقة "دعوة للكتابة" Call for Papers.
وأضاف بشارة أن المركز يطرح ثلاثة مشاريع رئيسة، وهي: معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، وهو يُعنى بتاريخ الألفاظ العربية، ويهدف إلى بناء مدونة لغوية عربية شاملة تسند الدراسات والأبحاث العربية والمعجمية. أما المشروع الثاني فهو المؤشر العربي، وهو برنامج قياس كمي للرأي العام العربي في المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية، مخصص لجمع معطيات كمية غير متوافرة في المنطقة العربية، عبر عينة تتراوح بين 18 إلى 20 ألف مستجيب تغطي 12 دولة عربية. وأضاف أن الاستطلاع يتيح المجال أمام الباحثين العرب للبحث في ظواهر عربية. واختتم بالحديث عن المشروع الثالث، وهو معهد الدوحة للدراسات العليا، إذ إنه مؤسسة مستقلة لها مجلس أمناء أكاديمي مستقل، تدّرس العلوم الاجتماعية والإنسانية والإدارة العامة والاقتصاد باللغة العربية. ويستفيد من هذا المعهد طلبة من 18 دولة من مختلف الأقطار العربية والغربية بما فيها دولة قطر. ويخطط المجلس الأكاديمي للمعهد بهدوء لطرح برنامج للدكتوراة، تجتمع فيه أقسام متعددة ضمن موضوع عام واحد يشتمل على تخصصات مختلفة. وخلص إلى أنه من الضروري للباحثين العرب في الجامعات الغربية من خلال لقاءاتهم ببعضهم وبالباحثين العرب في معهد الدوحة للدراسات العليا العمل على التفكير بالاشتغال لخدمة القضايا العربية، فما يهمنا هو وجود علماء عرب يساهمون في تطوير القضايا العربية، فهذه اللقاءات فرصة لتحقيق التفاعل العربي بين الجيل الجديد للباحثين العرب.
مداخلات اليوم الأول
اشتمل اليوم الأول في المؤتمر على سبع عشرة مداخلة لأربعة وثلاثين باحثَ دكتوراة عربيًا، قدموا بحوثهم المرتكزة أساسًا على أبحاث الدكتوراة التي يعدونها في الجامعات الغربية. وقد تلقى المشاركون تعقيبات من أكاديميين متخصصين في حقول متعددة. كما أعقب المداخلات نقاشات مكثفة من الطلبة المشاركين ومن الحضور. وينتمي الباحثون المشاركون إلى تخصصات عديدة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، مثل العلوم السياسية، والأدب، والاقتصاد، ودراسات الجندر، والتاريخ، وعلم الاجتماع، وغيرها.
عزمي بشارة: يتطلب الإنتاج المعرفي أن يقوم الباحث العربي في هذه المرحلة على وجه التحديد بمنهج متعدد التخصصات، لأن الظواهر مركبة ولا يمكن مقاربتها من زاوية نظر واحدة
وخلال الجلسة الأولى في موضوع دراسات الجندر، تطرق الباحثون إلى مفهوم الخصوبة أو انعدامها في فلسطين مع ربط هذا المفهوم بالسياقات السياسية والاجتماعية والاستعمارية الموجودة في الحالة الفلسطينية. كما اهتمت الجلسة بمعالجة قضايا الجندر وعلاقاتها بإشكاليات الهجرة القسرية خلال أوقات الحروب على غرار الحرب في سوريا، وكيف يؤثر هذا السياق في الهويات والأدوار والعلاقات الجندرية.
أما في اختصاص التاريخ، فقد انتقل النقاش إلى منتصف القرن التاسع عشر في مصر، حيث تتبّع بدايات تطور العلوم الحديثة في العالم العربي من خلال البحث في دور الطباعة في تشكيل مجالات الإعلام والفكر. كما طرحت المداخلات سيرة الشريف حسين قائد ثورة 1916 والدور التاريخي الذي قام به في مواجهة الإمبراطورية العثمانية.
أما الجلسة الثانية في موضوع الأنظمة التسلطية وسؤال الاستمرارية، فقد عالج الباحثون مفهوم الاقتصاد السياسي لتوزيع الموارد العامة في مصر. وبحثت الجلسة قضايا استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في المنطقة العربية مع ربطها بالاحتجاجات التي تدور فيها.
عزمي بشارة: من الممكن أن يكون المرء موضوعيًا ولكن غير محايد في القضايا التي تهمّ أمته وشعبه
أما في اختصاص الحركات الإسلامية والجماعات الجهادية، فتطرق الباحثون إلى دراسة وسائل التواصل السمعية والبصرية للإرهاب، وركزوا أيضًا على حالة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" والانتقال من نموذج القاعدة إلى نموذج طالبان.
وتجدر الإشارة إلى أن اليوم الأول اشتمل على تسع قضايا أخرى منها: دراسات في الأدب العربي المقارن، والاقتصاد السياسي، والقضية الفلسطينية بين السياسة والمقاومة، ودراسات الخليج.
اقرأ/ي أيضًا:
"المركز العربي" يبحث في تاريخية الجامعات العربية
إطلاق المواقع الالكترونية لدوريات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات