شاءت الصدفة أن تتضافر أربعة أحداث على شل الحياة الثقافية في لبنان خلال العام الفائت 2020، وهي: احتجاجات 17 تشرين الأول/ أكتوبر عام 2019، ظهور وباء كوفيد – 19، الأزمة الاقتصادية المتمثلة بخسارة الليرة اللبنانية أكثر من 70% من قيمتها أمام الدولار الأمريكي، وانفجار مرفأ العاصمة بيروت في الرابع من آب/ أغسطس الفائت.
تلقّى القطاع الثقافي في لبنان خلال عام 2020 أربع ضرباتٍ موجعة، تمثلت بتداعيات الاحتجاجات الشعبية، والجائحة، والأزمة الاقتصادية، وانفجار مرفأ بيروت
أربعة أحداث تسببت بشل مشهدٍ ثقافي، إن تتبعنا أبرز سماته خلال العقود الثلاثة الماضية، سنجد التعطيل الجزئي، أو الاكتفاء بعددٍ محدود من الفعاليات المتوسطة والعادية، كنايةً عن نوعية هذه الفعاليات، سمته الأبرز. فمنذ إغلاق صفحة الحرب الأهلية، وتداعيات حادثة اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، وصولًا إلى الأزمة السورية وارتداداتها السلبية على لبنان، تلقّى القطاع الثقافي اللبناني ضرباتٍ موجعة، عطلت بعض مواعيده وألغت أخرى. ولكنها، في المقابل، سمحت للعاملين فيه بمواصلة نشاطهم بإمكانيات محدودة، ضبطت إيقاعها اضطرابات أمنية وتوترات سياسية مصحوبة بانقساماتٍ داخلية وتجاذباتٍ طائفية، وضعت البلد، كما اعتاد اللبنانيون القول، على كف عفريت.
اقرأ/ي أيضًا: قطاع النشر في العالم العربي خلال 2020.. الخسائر تتصدر المشهد
وعلى الرغم من التعطيل الجزئي، أو الشلل النصفي الذي وسمَ أحوال القطاع الثقافي في لبنان، على الأقل خلال العقد الأخير، لم يحدث أن وصل عدد الفعاليات والنشاطات الثقافية إلى حدوده الدُنيا، مثلما هو الحال خلال العام الفائت. صحيح أن العوامل الداخلية والخارجية كانت تتحكم بضبط إيقاع البرمجة الثقافية الموسمية، فتُلغي حدثًا وتؤجل آخر، إلا أن تأثيرها بدأ يأخذ منحىً مختلفًا في السنوات العشر الأخيرة، في ظل تنامي قدرة القطاع والعاملين فيه على التكيُّف مع التحولات والمتغيرات من حوله، وضبط برمجته السنوية على هذا الأساس، الأمر الذي أشار إلى نوعٍ من الاعتيادية أو الألفة التي حكمت تعاطيه مع الأزمات مؤخرًا.
ما ينطبق على الاضطرابات الأمنية، والتوترات السياسية، بالإضافة إلى الانقسامات الداخلية والتجاذبات الطائفية، لا ينطبق بالضرورة على تداعيات الاحتجاجات الشعبية، والإقفال التام بسبب تفشي وباء كوفيد – 19، عدا عن الأزمة الاقتصادية الخانقة، وأخيرًا انفجار المرفأ. الاعتيادية أو الألفة في التعامل مع الأزمات والمستجدات الطارئة، غابت لصالح عجزٍ كُلي، حال دون الحصول حتى على أقل من نصف موسم ثقافي.
وإذا كانت "ضربتين على الرأس بتوجّع"، كما يقول المثل الشعبي، فإن القطاع الثقافي في لبنان تلقّى هذا العام أربع ضربات عطلت أكثر من نصف فعالياته ونشاطاته، وغيَّبت تظاهراتٍ هي الأبرز في روزنامته السنوية، مما يجعل من إجراء حصادٍ أو جردٍ لموسمه خلال 2020، يتسم بالكثير من المرارة.
الفضاء الافتراضي.. سمة العام الفائت
عشية استعداد الفضاءات الثقافية والفنية لانطلاق الموسم الثقافي لعام 2020، سجلت وزارة الصحة اللبنانية في 21 شباط/ فبراير الفائت، أول إصابة بفيروس كوفيد – 19، قبل أن تأخذ الإصابات مطلع آذار/ مارس مسارًا متصاعدًا، دفع الحكومة اللبنانية إلى فرض إقفالٍ تام، شمل المعارض والمتاحف، وتسبب بإلغاء وتأجيل الكثير من العروض المسرحية والموسيقية والفنية.
في تلك الأثناء، وجدت المؤسسات الثقافية والفنية في الفضاء الافتراضي، بديلًا يمكّنها من إقامة نشاطاتها وفعالياتها دون مخالفة الإجراءات المتبعة لمواجهة انتشار الوباء، حيث لجأت الغاليريات والمتاحف، بالإضافة إلى الفرق الموسيقية والفنية والراقصة، إلى إقامة عروضها افتراضيًا، فأحيت "الأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية" حفلة افتراضية على درج معبد باخوس الروماني في قلعة بعلبك، تحت عنوان "صوت الصمود"، فيما أتاحت العديد من المؤسسات أرشيفاتها الفنية والسينمائية للمشاهدين في عروضٍ افتراضية، لعل أبرزها نقل "متحف سرسق" لمعرضه "بعلبك: أرشيف الخلود" إلى الفضاء الافتراضي، وإتاحة مؤسسة "بيروت دي سي" مجموعة من الأفلام المستقلة على منصة "أفلامنا" في الوقت الذي عرضت فيه غاليريات "صفير زملر"، و"مرفأ"، و"مارك هاشم"، أعمالًا من أرشيفاتها الفنية افتراضيًا، وهي الخطوة التي اتخذها القائمون على مهرجان "بيروت للرقص المعاصر – بايبود"، الذي نقل بدوره عروض دورته الـ 16 إلى منصات التواصل الاجتماعي.
معرض بيروت الدولي للكتاب.. غياب متواصل
في كل موسم، يصاحب إقامة معرض بيروت الدولي للكتاب أحاديث وملاحظات تجتمع على فكرة واحدة، تفيد بأن عميد المعارض العربية شاخ وتقدَّم في السن بصورة متسارعة، دون أن يكون للأمر علاقة بأقدميته في المنطقة العربية، وإنما بالتنظيم والرؤية والحفاظ على شكلٍ ثابت يجعل منه سوقًا موسمية لبيع الكتب، أكثر منه حدثًا ثقافيًا يُفترض أن يكون الأبرز في روزنامة الأنشطة الثقافية السنوية.
للسنة الثانية على التوالي، يغيب التذمر من كهولة المعرض، والكيفية التي يُدار بها، وارتجال القائمون عليه في إقامة أنشطةٍ موازية تتسم، سنويًا، بالضعف وغياب الرؤية، كما تغيب أيضًا ملاحظات الناشرين والقراء حول سوء تنظيمه، ومطالبهم بتجديده وتطويره، والسبب غياب المعرض نفسه بسبب الاحتجاجات الشعبية التي سبقت موعد انعقاده عام 2019، والأزمة الاقتصادية التي حالت دون إقامته خلال العام الفائت.
الملفت للانتباه هو احتمال تأجيل المعرض للمرة الثالثة، فهو، وعلى عكس بقية المعارض العربية التي ارتبط غيابها بالجائحة، والتي ستعود بعد زوالها، مرهونٌ بتعافي الاقتصاد اللبناني بالدرجة الأولى، وإلا فالتأجيل سيكون سمته الأبرز خلال السنوات القادمة، على اعتبار أن أهمية شراء الكتاب تراجعت لصالح تأمين متطلبات البقاء.
نشاطات لا تكفي لسد الفراغ
نجت بعض الفعاليات الثقافية والفنية خلال العام الفائت من الإلغاء أو التأجيل، وأقيمت كنوعٍ من التأكيد على قدرة القطاع الثقافي على الاستمرار وسط هذه الظروف. ولكنها، بطبيعة الحال، فعاليات متواضعة، ذات طابع محلي بحت، لا يمكن الاستعاضة عن المهرجانات الصيفية التي غابت عن موسم 2020 بها، كما أنها لا تملأ الفراغ الذي خلّفه غياب معرض بيروت الدولي للكتاب، وغيره من المواعيد البارزة في البرمجة الموسمية.
اقرأ/ي أيضًا: جوائز 2020 الأدبية في حصادها.. عام المفاجآت
ولعل أبرز هذه الفعاليات التي أقيمت خلال الوقت المستقطع بين حجرٍ وآخر، هي المعرض الاستعادي الذي أقامه غاليري "صفير زملر" للفنانة اللبنانية إيتل عدنان، ومعارض عبد الرحمن قطناني وسروان باران وهبة كلش وسمر مغربل التي احتضنها غاليري "صالح بركات"، بالإضافة إلى إقامة غاليري "أجيال" مجموعة معارض اختُتمت بمعرض لهلا عز الدين، وغيرها من الفعاليات التي تنوعت بين معارض فنية وعروض مسرحية وموسيقية، آخرها إقامة الدورة الثالثة عشر من مهرجان "بيروت ترنّم"، في إحدى الكنائس التي تضررت بسبب انفجار مرفأ بيروت.
انفجار مرفأ بيروت.. أزمة إضافية لأزمات الحياة الثقافية اللبنانية
فيما البلاد تئن تحت وطأة الجائحة وأزمتها الاقتصادية، هز انفجار مخيف العاصمة بيروت عصر الرابع من آب/ أغسطس الفائت، مصره مرفأ المدينة، وحصيلته أكثر من 200 قتيل، ونحو 6500 جريح، بالإضافة إلى خسارة نسبة كبيرة من التراث العمراني للمدينة، وتدمير مساحات واسعة في الأحياء القريبة من المرفأ.
غابت بيروت عن خارطة الكتاب في العالم العربي للعام الثاني على التوالي بعد تأجيل معرض بيروت الدولي للكتاب بسبب الأزمة الاقتصادية
القطاع الثقافي بدوره نال حصته من الكارثة، عبر تضرر بنيته التحتية من غاليريات وفضاءات ثقافية، إذ لحق الدمار بغاليري "مرفأ"، فيما تكبد غاليري "تانيت" خسائر فادحة، وهو حال غاليري "رميل" و"آرت لاب" أيضًا، بالإضافة إلى "المؤسسة العربية للصورة"، و"متحف سرسق"، وغاليري "ليتيسسا" الذي فُجع بوفاة مديرته غايا فودوليان بسبب الانفجار، تمامًا كما هو الحال بالنسبة إلى غاليري "صالح بركات" و"أجيال" الذي ودّع أحد أفراد أسرته، وهو فراس الدحويش.
اقرأ/ي أيضًا: