تعاني مدينة عمّان من ندرة ظاهرة في المكتبات العامّة يستطيع لمسه سكان المدينة وزوارها من الباحثين والطلبة الأجانب. فالمكتبة العامة لم تعد محطّة مركزيّة تشكّل وعي الناشئة والطلاب، إذ ما يزال عدد المكتبات الأهليّة محدودًا ولا يتناسب مع الزيادة الكبيرة في أعداد السكّان، خاصة في شرق عمّان حيث تزداد الكثافة السكانية وتشتد الحاجة لوجود المكتبات العامة، مع تراجع القدرة الشرائية للأهالي والتي تجعل من شراء الكتب عبئًا لا تستطيع معظم الأسر احتماله، إضافة إلى حاجة الطلبة إلى مساحات للمطالعة الفردية والدراسة والبحث، تعجز المدارس والمنازل عن توفيرها.
تتوسّع مدينة عمّان ويزداد عدد سكانها دون أن يترافق ذلك مع ما يلزم من تطوير في البنى التحتية والخدمات الأساسيّة
وفي حين تتسابق الدول على توفير مصادر المعرفة للمواطنين لكي تتمكن من ضمان دور مستقبلي لهم في تعزيز الاقتصادات التي باتت قائمة على المعرفة، التي تعدّ المحرك الأساس للتطور الاقتصادي في العصر الحديث، ما تزال العاصمة عمّان تحرم سكانها من حق أساسي ليس وفق المواثيق الدولية وحسب، بل ووفق القوانين المحليّة في الأردن، حيث يتضمن قانون البلديات الأردني منذ أن وضع عام 1955 مادة ثابتة تلزم البلديات بتطوير المؤسسات الثقافية والرياضية وإنشاء المتاحف والمكتبات العامة.
اقرأ/ي أيضًا: مكتبات الموتى.. إلى الرصيف سر
وتعد دائرة المكتبات العامة التابعة لأمانة عمان الكبرى الجهة المسؤولة عن تطوير المكتبات في العاصمة وتعزيز دورها في المجتمع المحلي، وتضم 72 مكتبة موزعة على أنحاء مختلفة في المدينة، منها ثلاث مكتبات "متخصصة"، واحدة تعنى بالأدب، وثانية بشؤون المرأة، وثالثة معنية بتوفير الكتب المتعلقة بتاريخ الأردن. إلا أن هذا العدد من المكتبات بالكاد يلبي احتياجات سكان المدينة الذين يقترب عددهم من 4 ملايين نسمة، إضافة إلى أنّ المكتبات المتوفرة لا تسدّ احتياجات الزوار والمستخدمين المتنوعة، ولاسيما الشباب، إذ لا تتوفر فيها الكتب والمراجع الحديثة، عدا عن ضعف ما فيها من التجهيزات والمرافق وسوء الإنارة والتهوية.
مكتبات بلا قرّاء
تتوسّع مدينة عمّان ويزداد عدد سكانها دون أن يترافق ذلك مع ما يلزم من تطوير في البنى التحتية والخدمات الأساسيّة وشبكات المواصلات وتوفير المساحات العامة والمراكز الاجتماعية والثقافية والمنشآت الرياضية والترفيهية، ما يجعل الوصول إلى مكتبة عامة أمرًا أكثر صعوبة، لا سيما بالنسبة للطلبة من الذكور والإناث، سواء للمطالعة والقراءة، أو للدراسة وإجراء البحوث المدرسية أو الجامعية البسيطة. فعدم توفير شبكة مواصلات آمنة يحول دون استفادتهم خلال أيام الأسبوع من فروع المكتبات العامة التي باتت بعيدة عن السكان في أطراف المدينة الممتدّة. ومع ضعف المحتوى من الكتب الحديثة والمتنوعة، إضافة إلى غياب البرامج والفعاليات الموجهة للناشئة في المكتبات وعدم وجود مرافق ملائمة للقراء الصغار داخل المكتبة أو في محيطها، تترسّخ حالة النفور الأهليّ العام من زيارة المكتبات، ما يساهم في بقائها خاوية إلا من عدد من الموظفين والزوار الدائمين من جيران المكتبة، والذين يكونون عادة من كبار السنّ المهتمين بالقراءة.
موسم الهجرة إلى "ستارباكس"
ومع ضعف انتشار المكتبات العامّة وغياب دورها كمساحة آمنة لفئات المجتمع المختلفة وخاصة الطلبة من الذكور والإناث، بدأ في الآونة الأخيرة انتقال الشباب للدراسة في الكافيهات التي تزايدت أعدادها بشكل لافت في مدينة عمّان. إذ صارت هذه الكافيهات قبلة لطلبة الثانوية وطلبة الجامعات، الذين ضاقت بهم مكتبات جامعاتهم ومدارسهم، ولم يجدوا بديلًا عنها في المكتبات والمراكز الثقافية العامّة، فلجأوا إلى الكافيهات المنتشرة في المناطق الجامعية وأحياء عمّان الغربية ليجلسوا ساعات طويلة للدراسة والتباحث، أو للمطالعة والقراءة. وقد نجح القائمون على هذه المساحات التجارية في استقطاب الطلبة عبر توفير كل ما يحتاجه الطلبة من خدمة إنترنت سريع، ووجبات معقولة السعر، وطاولات ومقاعد مريحة للجلوس عليها فترات طويلة، وإنارة ملائمة للدارسة والقراءة، إضافة إلى توفير بعض الكتب والمراجع والقواميس والقرطاسية، عدا عن المرافق العامّة وأماكن الصلاة.
منيب علي، طالب في علم الحاسوب، يقول لـ"ألترا صوت" إنّه يفضّل الدراسة في المقهى لأنه لم يجد خيارًا غيره، فالمكتبة العامّة الوحيدة التي يعرفها بعيدة عن الحيّ الذي يسكن فيه، ولا تتوفر فيها خدمات بسيطة مثل الحمامات النظيفة أو حتى القهوة. ويقول منيب إنّ المقهى صار مكانه المفضل للدراسة والقراءة ويقول: "أنا أقرأ الكتب الإلكترونية، وأفضل الجلوس في المقهى 4 ساعات في اليوم أستفيد من المقاعد الجيدة والإنترنت السريع مقابل فنجان كبير من القهوة".
ويشهد هذا النوع من الكافيهات توسعًا في المدينة على حساب المكتبات العامّة والمكتبات الجامعيّة والمراكز الثقافية، والتي وإن كانت تستنزف جيوب الطلبة، إلا أنّها باتت متنفسًا لهم يعوّض عن ضيق مكتبات الجامعات وترهل الخدمات فيها، والخيار العمليّ الوحيد أمامهم في ظل غياب المكتبات العامّة.
مبادرات أهليّة لتدارك التقصير الرسميّ
مع استمرار تقصير الجهات الحكومية المعنية بتطوير الخدمات العامة في البلاد، وإهمال أهمّية إنشاء المزيد من المكتبات العامّة التي من شأنها تلبية حاجة ملحّة لدى الشباب الذي يمثلون أغلبية السكّان، وتخفف الضغوط المتزايدة على الأهالي عبر توفير مساحات عامّة مجانية أو شبه مجانية للقراءة والدراسة لأبنائهم، أخذت مؤسسات مدنيّة هذه المسؤولية على عاتقها، لدعم المكتبات وتوسعتها وإنشاء المزيد منها، حتى تفوّقت في سمعتها وحضورها على المكتبات العامة الرسميّة. ويأتي في مقدّمة هذه المكتبات الأهليّة العامّة "مكتبة عبد الحميد شومان العامّة"، التي تأسست عام 1986، وهي مكتبة حديثة ومحوسبة تعنى بتوفير مختلف مصادر المعرفة لزوارها من الطلبة والباحثين والقراء، كما تنشط المكتبة في تنظيم فعاليات ونشاطات دورية من محاضرات وعروض أفلام وقراءات شعرية وندوات علمية وأدبية. كما أطلقت المكتبة مبادرة أخرى باسم مكتبة "درب المعرفة" وهي أول مكتبة تفاعلية متكاملة للأطفال في المملكة، تشتمل على قاعة للقراءة فيها أكثر من 10 آلاف كتاب بالعربية والإنجليزية للأطفال من مختلف الأعمار، إضافة إلى زوايا إبداعية في هذه المكتبة لتنظيم الأنشطة الفنية التفاعلية التي تعزز ثقافة الطفل وعلاقته مع الكتاب والثقافة، وتوفر بديلًا عن اللعب في الشارع والانغماس في النشاطات الترفيهية الاستهلاكيّة غير الهادفة أو الإدمان على الأجهزة الإلكترونية.
تعدّ "مكتبة عبد الحميد شومان العامّة" من أكثر المكتبات نشاطًا في العاصمة عمّان، ولها فروع في محافظات أخرى من المملكة
وتعدّ هذه المكتبة الأهلية من أكثر المكتبات نشاطًا في العاصمة عمّان، ولها فروع في محافظات أخرى من المملكة، وهي مفتوحة لجميع الزائرين دون الحاجة لاشتراك إلا لأغراض الاستعارة والاستفادة من خدمة الإنترنت وبعض الخدمات الأخرى، ورسوم الاشتراك رمزيّة تدفع مرّة واحدة للاستفادة من خدمات المكتبة ومرافقها مدى الحياة. وبخلاف المكتبات العامة الرسمية، فإن أوقات الدوام في مكتبة شومان تبدأ الساعة التاسعة صباحًا حتى الثامنة مساءً، كما تفتح المكتبة أبوابها يوم الجمعة من الساعة الثالثة بعد الظهر حتى الثامنة مساء، ما يعني إمكانية الاستفادة من خدماتها على مدار الأسبوع.
اقرأ/ي أيضًا: دكاكين الكتب المستعملة... وجه آفل لمدينة عمان
مع ذلك، يرى كثيرون أن هذه المبادرات رغم جهودها العظيمة والتي تنعكس بشكل ملموس على واقع فئات كبيرة من المجتمع، لن تستطيع سدّ الثغرة الكبيرة التي خلّفها غياب المكتبات العامة في الأردن، سواء في العاصمة أو محافظات المملكة الأخرى، بما يشكله هذا الغياب المزمن من تهديد لسلامة المجتمع وفاعليته.
اقرأ/ي أيضًا: