ظلت الحكومات السودانية المتعاقبة تنظر إلى العمل النقابي بعين الريبة، وبمجرد صعود قوة سياسية أو عسكرية إلى سُدة الحكم، فإن أول ما تقرر بشأنه، هو تجميد قانون النقابات، والدعوة لتفصيل قانون جديد يُمكّنها من السيطرة، ويلائم طبيعتها الأيديولوجية، أو تتآمر بتغييب الحراك النقابي بالمرة، حتى لا يتولى إثارة المطالب والخروج عليها.
نظرت الحكومات السودانية المتعاقبة للعمل النقابي بعين الريبة، مع مساعٍ مستمرة للتضييق عليه وتغييبه بشكل كامل
وعلى الدوام، كانت تلك الهيمنة بقمع استقلالية وديمقراطية التنظيمات واختراقها من قبل الأحزاب الحاكمة، سببًا كافيًا لولادة ما يُسمى بالنقابات المهنية، كونها معنية بخدمة جمهورها، وأقرب لتبني مطالب الشارع، ومع ذلك، فإن هذه الاستقلالية الظاهرة لا تعني تمددها في فراغ سياسي، فهي كثيرًا ما تهرب من حضن السلطة إلى حضن المعارضة، أو تخوض تجربة التغيير الشامل كما في ثورتي تشرين الأول/أكتوبر 1964، ونيسان/وأبريل 1985.
اقرأ/ي أيضًا: أكتوبر 1964.. حين فشلت ثورة السودان
ولعل صورة القائد العمالي اللامع الشفيع أحمد الشيخ، أكثر نصاعة في التعبير عن وطأة التنظيم السياسي، فهو أول من قاد مظاهرة عمالية داعمة لانقلاب 19 تموز/يوليو 1971 الذي نفذه الحزب الشيوع السوداني على الرئيس جعفر النميري، وسرعان ما دبر الشيوعييون ما أطلقوا عليها الحركة التصحيحة بقيادة الرائد هاشم العطا، وكان الشفيع وقتها رمزًا من رموز الحركة الوطنية، وأصغر نقابي تقريبًا تقلد مناصب متقدمة في الحركة النقابية العمالية.
وبعد فشل انقلاب الحزب الشيوعي، تمكن النميري من العودة إلى السلطة، وأعدم قادة الانقلاب بمن فيهم الشفيع أحمد الشيخ، الحائز على وسام لينين.
لم يكن انقلاب حزيران/يونيو 1989 المكنى بـ"ثورة الإنقاذ" استثناءً، فقد حرص في بواكيره على احتواء النقابات عبر التمكين السياسي، والذي يعني إحلال الطاقم الموالي في المواقع كافة. وبالرغم من ذلك برزت أصوات نقابية رافضة لهذا التمكين، وتناسلت أجسام منافسة، حاولت أن تنحى منحى مغاير، تحديدًا في الحقل الصحفي والطبي، حيث أُعلن في يوليو/تموز 2012 ما سمي بـ"نقابة أطباء السودان الشرعية"، لتنافس اتحاد الأطباء الموالي للسلطة. وأصدر الأطباء بيانًا خلال اجتماع تأسيسي للنقابة الجديدة، قالوا فيه إنهم توافقوا "على جملة أهداف محددة تتلخص بالوقوف ضد سياسات الخصخصة في قطاع الصحة، ورفض كل سياسات النظام التي أدت إلى تدني الأوضاع المعيشية وارتفاع أسعار الأدوية".
لم يكن ذلك الميلاد الأول لنقابة الأطباء الموازية للنقابة الرسمية، لكنها تبنت مطالب عضويتها، ونتج عن ذلك إضراب تشرين الأول/أكتوبر 2016، لتندلع من جهة أخرى أيضًا شرارة صاحبة الجلالة بميلاد شبكة الصحفيين السودانيين، والتي خرجت من رحم المطالب الصحفية، وبروز أصوات تنافح عن حرية التعبير.
يقول خالد فتحي أحد الصحفيين المؤسسين للشبكة، لـ"الترا صوت" إن "المؤتمر الوطني الحاكم سعى منذ وقت مبكر جدًا للسيطرة على النقابات، ربما من بعد الانقلاب مباشرة، لأنه رأى بعينيه الحراك لها إبان ثورة تشرين الأول/أكتوبر 1964، حيث كانت النقابات التي كونت فيما بعد جبهة الهيئات رأس الرمح والوقود الحيوي في الثورة الشعبية، ثم تكررت التجربة كذلك في انتفاضة 1985"، مُضيفًا: "للنظام تجربة مريرة مع نقابة الأطباء التي تبنت الإضراب الشهير في 1990، ولم تجد مفرًا من تصفيتها بعنف شديد، ما تسبب في مقتل الطبيب علي فضل، وسجن أطباء آخرين".
ومع محاولات الحراك النقابي الموازي، يرى خالد فتحي أنه حاليًا "لا توجد نقابات بالمعنى المفهوم"، مُوضحًا أنّ 90% من القوى العاملة ليست لديهم نقابات بسبب سياسات التحرير الاقتصادي التي عملت على تصفية مؤسسات القطاع العام كالسكة الحديد والنقل الميكانيكي والغزل والنسيج، وغيرها.
برزت في السودان أصواتٌ نقابية رافضة لسيطرة النظام على العمل النقابي، فأنشئت نقابات واتحادات مهنية موازية كالأطباء والصحفيين
وبخصوص النقابات المهنية، كنقابة الأطباء والصحفيين والمحامين، فهذه بحسب فتحي "اتحادات مهنية، وليست نقابات، ويجري السيطرة عليها عبر السجل الانتخابي".
اقرأ/ي أيضًا: عن أطباء السودان والبلاد التي تُكتب الآن
في المقابل، يبدو خالد فتحي أكثر تباهيًا بتجربة شبكة الصحفيين، فهي بالنسبة له "مجموعة ضغط"، وليس اتحادًا أو نقابة. ويعتبرها تجتهد في خط الدفاع عن الحريات الصحفية وحرية التعبير ورفع الوعي وسط الصحفيين بحقوقهم المهنية والعامة. "يمكن في المستقبل أن تتحول إلى نقابة لكن هذا يستوجب تغيير بنيتها الهيكلية"، يقول خالد فتحي.
ومن المهم الإشارة إلى أن الدورات النقابية المتعاقبة منذ عام 1950 وحتى 2011، بلغت 15 دورة، تتفاوت في آجالها من عام لعامين، ولأربعة أعوام ثم خمسة أعوام، اعتبارًا من دورة 1996/2001، حسب نصوص القوانين وتطوراتها.
لكن المثير في الأمر، أن التنازع النقابي برز حتى داخل حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان، حيث شهدت انتخابات المحامين الأخيرة أكثر من قائمة من داخل الحزب نفسه، وكانت المجموعة الأولى من الوجوه الشبابية رافضة لمرشح الحزب، وتنبنت رؤية جديدة ودفعت بمرشحها، إلا أن قيادة الحزب تمكنت من احتواء الخلاف في الساعات الأخيرة، وفازت بالنقابة كعادتها.
ونعود للاستشهاد برؤية الأمين العام لـ"مبادرة السائحون"، فتح العليم عبد الحي، وهي المبادرة التي تضم شباب الإسلاميين الذين قاتلوا في البداية دفاعًا عن السلطة، ثم تبنوا بعدها رؤية إصلاحية. إذ يعتبر فتح العليم عبد الحي، أنّ الأصل في نشأة النقابة، أنها "كيان مطلبي مهمته الحرص على قيام علاقات العمل بين العمال ورب العمل، واستخدام وسائل التعبير النقابي من اعتصام وإضراب وتظاهر وغيرها، للدفاع عن الحقوق"، ويعتمد فتح العليم تقدير أن أي درجة من التسييس تجعل النقابة تخضع لمطلوبات القوي السياسية المسيطرة وتضر بالقضية النقابية.
يمضي فتح العليم عبد الحي في حديثه لـ"ألترا صوت"، بالقول إن الاسلاميين في عهد الإنقاذ تعاملوا مع الكيانات النقابية من اتحادات ونقابات عمال وموظفين وما إلى ذلك، باعتبارها واجهات تنظيمية، وعملوا على السيطرة على هذه النقابات عبر قوائم التعيين الجاهزة، أو عبر التزوير إذا كانت هنالك منافسة حقيقية، وفقًا له.
ويضيف مستشهدًا: "لذلك أزمة مثل الأزمة الاقتصادية الحالية، لم يفتح الله على اتحاد العمال ولو بمنشور يبدي فيه على أقل تقدير رفضه للموازنة بشكلها الذي خرجت به، والذي يطحن المسحوقين طحنًا"، على حد وصفه.
ويرى فتح العليم عبد الحي، أن الجيل الحالي من الشباب، نشأ في عهد هذه النقابات الصورية، ولم ير نقابة حقيقية، ولم يشهد فاعلية حقيقية للنقابات، "بدلالة أنه زاهد فيها تمامًا، كما هو الآن أكثر زهدًا في الأحزاب والقوى التقليدية"، ثم يخلص إلى القول: "الآن لو عملتَ استطلاعًا وسط الشباب، لن تجد أحدًا يعرف رئيس اتحاد العمال. أنا نفسي لا أعرفه!". علمًا بأن رئيس اتحاد العمال السوداني هو يوسف علي عبد الكريم.
لا يبدي الشباب السوداني اهتمامًا بالنقابات ولكن تتفتح طاقاتهم سواءً المطلبية أو السياسية عبر مواقع التواصل الاجتماعي الأكثر حرية
لكن ما يجري الآن يعزز من حقيقة مهمة، وهي أن شباب السودان إلى اليوم، تقتصر علاقتهم بالنقابات من خلال التواجد الوظيفي فقط، ولا يعيرونها اهتمامًا، وفي المقابل، تتفتح طاقاتهم وأشواقهم في منابر أخرى من خلال مواقع التواصل الاجتماعي. وحتى التعبير عن القضايا السياسية لا يأخذ ذلك الشكل المألوف، وإنما يتمرد على السلطة ويقترب من المجتمع، مثل هروبهم من الأجسام النقابية التقليدية إلى فضاء أكثر رحابة وحرية.
اقرأ/ي أيضًا: