ازدهرت، قبل عقود، نظرية فكرية تقول بوجود "بنية" راسخة للعقل العربي تمت صياغتها منذ عصر التدوين، وهي تتحمل مسؤولية الكثير من مظاهر الحالة العربية المتردية، إذ تجعل مجتمعاتنا عصية على الحداثة والتحديث.
عثرنا على شماعات جديدة ومن العيار الثقيل، فإلى جانب الاستعمار والامبريالية والعولمة، صار لدينا التجربة التاريخية، والبنية العميقة، والذهنية المستقرة، واللاوعي الجمعي
وقد تناسلت من هذه النظرية الكثير من الاستنتاجات التي سرعان ما غدت أحكامًا صارمة و"حقائق" صلبة: "لا يمكننا الوصول إلى نظام سياسي قائم على الديمقراطية والتعددية والقانون قبل أن نغير في البنية العميقة لثقافة مجتمعاتنا حيث تسود الروابط القبلية والطائفية والجهوية"، و"لا يمكننا إقامة نظام اقتصادي متطور، منتج وفعّال، حتى نقضي على الثقافة الاجتماعية الراسخة القائمة على الكسل والتواكل"، و"لا نستطيع الخروج من أزمة الكتاب قبل أن نغير في الذهنية المسيطرة حيث تسود الأمية وتقاليد الشفاهة المتخلفة"، و"لا حل لأزمة السينما إلا بعد إزالة المعوقات الابستمولوجية والسيكولوجية التي تسبب عزوف الناس عن السينما وتجعلهم يتسمرون أمام التلفزيون".
اقرأ/ي أيضًا: أمّ المؤامرات
بناء على هذا التوصيف لم يعد مهمًا أن نطالب بمناخ سياسي ذي هوامش واسعة للقول والعمل بحرية، ولا أن نبني مصانع حقيقية يتجاوز عملها اليافطات الكبيرة والشعارات الجوفاء التي تملأ جدرانها. ولم يعد ذا جدوى أن نصدر كتبًا تعني أحدًا، أو نبني صالات سينما صالحة للاستخدام البشري، أو إصلاح علب الكرتون التي نسميها مسارح.. كل هذا مؤجل حتى يمن علينا التاريخ بطفرة تصنع التغيير الشامل المنشود!
هكذا نكون قد عثرنا على شماعات جديدة ومن العيار الثقيل، فإلى جانب الاستعمار والامبريالية والعولمة، صار لدينا التجربة التاريخية، والبنية العميقة، والذهنية المستقرة، واللاوعي الجمعي... وباختيارنا لأعداء على هيئة طواحين هواء فقد حددنا سلفًا أي نوع من المعارك سوف نخوض: معارك دونكيشوتية محكومة باليأس اللذيذ الذي يسم عادة معارك الأبطال المأساويين وهم يواجهون قوى قدرية فوق بشرية..
واليوم تعود هذه النظرية ومتفرعاتها، لا لتبرر الفشل وحسب، بل ولتقدم الدعم لإدانة الناس، إذ يتفنن بعض "النخبويين"، ممن يحملون راية التنوير بتقريع "الجماهير الجاهلة الغبية المحصنة ضد العلم والتعليم والثقافة"، هذه "الغوغاء المسؤولة عن إحباط كل محاولات التحديث، بسبب تعلقها بالتراث وتشبثها بالثقافة الشعبية، والتقاليد البالية، والعقل الغيبي، والعلاقات الاجتماعية المتخلفة".
"روح القطيع" و"ثقافة القطيع" و"غريزة القطيع".. عبارات تحضر بكثرة في جلسات النخبويين، وإن كانت تغيب عن كتاباتهم صراحة (من باب التقية). ومفردة القطيع تستتبع مفردة الترويض بالطبع، وهذا ما تفتقت عنه قريحة أحدهم إذ أكد أن الجماهير "لم تكن تستحق التنعم بثمرات التكنولوجيا الحديثة ولا بالانفتاح على العالم قبل أن يتم ترويضها جيدًا".
بالمقابل فإن مراكز القرار، والنخب الثقافية الدائرة في فلكها، تعفى من النقد والتقريع، فلا مسؤولية تقع على سياساتها قصيرة النظر، وشعاراتها الفارغة، وحداثتها الزائفة، وتحديثها القسري الأجوف، تعاليها وكسلها وإهمالها المتعمد للثقافة، وتكبيلها للإبداع!
مراكز القرار، والنخب الثقافية الدائرة في فلكها، تعفى من النقد والتقريع، فلا مسؤولية تقع على سياساتها قصيرة النظر، وشعاراتها الفارغة، وحداثتها الزائفة
إنه النقد الشرس والآمن في الوقت نفسه، ذلك أن "التجربة التاريخية" و"البنية العميقة" و"الذهنية المستقرة".. لا تملك أنيابًا ولا مخالب ولا سجونًا ترمي الناقد في غياهبها.
اقرأ/ي أيضًا: محنة غياب الوجوه
في كتابه "السامريون الأشرار"، يورد الكاتب الكوري الجنوبي، ها ـ جوون تشانغ، هذه القصة: في وقت ما من مطلع القرن العشرين دعت حكومة بلد نام خبير إدارة أسترالي ليزور معاملها. وبعد جولة واسعة ومدققة، قال الخبير لموظفي الحكومة إنه كان مندهشًا لضعف رواتب عمالهم ولكن دهشته زالت بعد أن رأى المستوى المتدني لإنتاجية هؤلاء العمال. "لقد رأيت رجالكم وهم يعملون فشعرت أنكم جنس شديد الرضا شديد السلاسة واللين لا يقيم للوقت وزنًا". أما موظفو ذلك البلد فقد أبدوا أسفهم، إذ "لا سبيل الى تغيير عادات التراث الوطني".
احزروا ما هو هذا البلد النامي؟. إنه اليابان!
اقرأ/ي أيضًا: