طريقة التعاطي مع أبشع الحوادث التي نشهدها في عصرنا الحالي، تكشف عن انتقائية التضامن الغربي، التي يبدو أن البروباغندا وصناعة الإعلام تلعب دورًا أساسيًا فيها، إضافة بالطبع إلى فروض المصلحة التي قد تدفع إلى تجاهل مجازر ضحاياها بعشرات الآلاف. فيما يلي ترجمة بتصرف لمقال نشرته صحيفة "سيدني مورنينغ هيرالد" يلقي الضوء على هذه الانتقائية الغربية في التضامن أو التنديد.
من المطمئن أن نرى أن العالم الغربي لا يزال لديه القدرة على الغضب لانتهاك حقوق الإنسان! وعلى وجه التحديد، من حكومة يبدو أنها قتلت صحفيًا.
أين كانت صيحات الاحتجاج والتنديد الغربي عندما قصف التحالف السعودي حافلة مدرسية في اليمن ما أودى بحياة 40 طفلًا يمنيًا؟!
دخل الصحفي السعودي جمال خاشقجي إلى القنصلية السعودية في إسطنبول مطلع الشهر الجاري. وكان خاشقجي ناقدًا للديكتاتور السعودي محمد بن سلمان، ويعيش خارج وطنه حرصًا على سلامته. لكنه عرّض نفسه للخطر عن طريق وضع قدمه في أرض دبلوماسية سعودية، للحصول على أوراق خاصة بالزواج. ويبدو أن الخطر كان قاتلًا!
وتُتهم حكومة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بإصدار الأمر بتعذيب وقتل وتقطيع خاشقجي داخل القنصلية. عقابًا له على جريمته الكبرى؛ ألا وهي انتقاد الأمير.
طالبت كلٌ من بريطانيا وفرنسا وألمانيا بالحصول على إجابات من ابن سلمان. ثم أعربت وزيرة الشؤون الخارجية الأسترالية ماريز باين عن "قلق عميق للغاية"، كما دعت وزيرة الخارجية في حكومة الظل الأسترالية، بيني وونغ، للحصول على تفسير من السعودية.
يبدو أن ما حدث كان متطرفًا جدًا، ومثّل هجومًا صارخًا على حرية التعبير والحرية السياسية على أرض دولة تابعة لحلف الناتو، لدرجة أن دونالد ترامب طالب بتفسير من السعودية. وهدد الرياض بـ"عقوبة قاسية" إذا ثبتت صحة الاتهامات، قبل أن يصرح أخيرًا بأن دم خاشقجي في رقبة ابن سلمان.
أنكر السعوديون في البداية التعرض لخاشقجي، غير أنهم لم يستطيعوا تفسير أين ذهب بعد دخوله للقنصلية. في النهاية اضطروا للرضوخ والاعتراف بأنه قتل داخل القنصلية، وقالوا إنه قتل بعد شجار في الداخل، ثم قالوا أخيرًا إنه ربما تكون عملية قتله كانت مدبرة.
انتقده الغرب ولا زالوا، لكن "أين كانت صيحات الاحتجاج والإدانة الغربية هذه عندما ألقت السعودية قنبلة على حافلة مدرسية يمنية في آب/أغسطس الماضي، الأمر الذي أسفر عن مقتل 40 طفلًا دون سن الـ11؟!"، كما تتساءل مارلو صافي في مقال لها بمجلة ناشونال ريفيو.
أو أين كانت تلك التنديدات عندما كانت المساجد والمراكز الإسلامية الممولة سعوديًا في أوروبا، تدعوا لسنوات للأيديولوجية الوهابية المتشددة، منشئةً بؤرًا للتطرف؟!
ثم ما يُطلق عليه "الحرب المنسية"، وهي الحرب الأهلية في اليمن، حيث أدى الحصار الذي تقوده السعودية إلى خلق مجاعة وقتل أكثر من 16 ألف مدنيًا. لم يواجه ابن سلمان بأي صيحات احتجاج أو إدانة، ولهذا السبب فقد اعتقد أنه بإمكانه الاستمرار فيما يفعله دون رادع.
ولطالما ظن السعوديون أنه لا يمكن المساس بهم، وأنهم محميون بإله النفط المقدس. وحصلوا مؤخرًا على الحماية الإضافية للتحالف السياسي الجديد بين ابن سلمان والرئيس الأمريكي دونالد ترامب. حتى بعد الضجة العالمية حول خاشقجي، واصلت الرياض الضغط على زر "النفط"، وأصدرت تهديدات غاضبة للرد على أي عقوبات مع تخفيضات في إنتاج النفط، وهو ما يعني ارتفاع أسعاره.
غير أن التهديدات السعودية التي خرجت في البداية بالتلويح بورقة النفط، لم تكن ذا تأثير كبير. فالآن، ومع تخمة العالم من النفط، فبالكاد تأثرت أسعار العقود الآجلة للنفط بعد التهديدات السعودية، إذ ارتفعت بنسبة 2% فقط. ولربما يفسر ذلك بعضًا من تراجع السعودية عن تهديداتها والإذعان أخيرًا للاعتراف، وإن كان اعترافًا ناقصًا غرضه التلبيس.
حسنًا، إذا ما سلمنا بـ"تسامح" العالم إزاء الفساد السعودي، فهل من المعقول أيضًا أن يتحرك العالم بهذا البطء الشديد تجاه اثنين من أفظع الأعمال الوحشية يشهدهما عصرنا الحالي؟
أحدهما متمثل في الإبادة الجماعية ضد شعب الروهينغا في ميانمار، حيث فر ما يقرب من مليون شخص من جرائم الإبادة الجماعية، فيما هناك نحو 700 ألف شخصٍ نصفهم من الأطفال عالقين في مخيمات اللجوء ببنغلاديش، وهم مرعوبون من العودة إلى ديارهم بسبب أحداث القتل المنظم ضد ذويهم.
أما الآخر فهو ظهور دولة الغولاغ الحديثة في شمال الصين، حيث يُحتجز حوالي مليون شخص في معسكرات الاعتقال الجماعية، ويُحبسون لأجل غير مسمى، دون تهمة أو إجراءات قانونية، وجريمتهم أنهم من الإيغور الأصليين الذين يعيشون في الصين.
في نيسان/أبريل الماضي قالت إحدى الناشطات الإيغوريات تدعى ربيعة قدير، إن مليون فرد من قومها محبوسين في المعسكرات، من بينهم 37 من أفراد عائلتها الكبيرة، بينهم 11 طفلًا دون سن العاشرة. يبدو أن الرقم كبير بشكل غير عادي، ولكن كل ما ظهر منذ ذلك الحين يؤكده. ولا تزال السلطات الصينية تبني معسكرات جديدة، وفقًا لوثائق المناقصات العامة الحكومية.
وحتى وقت قريب، كانت بكين تقول إن المعسكرات كانت مراكز إعادة تأهيل مهنية. يالرحمتهم! لكن ربيعة قدير -التي تتحدث بحرية لأنها تعيش في المنفى بالولايات المتحدة- تصفها بأنها معسكرات اعتقال تكون فيها جلسات البروباغاندا إلزامية، والاتصال بالعالم الخارجي محظور. وقد وصف جيروم كوهين، الخبير في النظام القانوني الصيني من جامعة نيويورك، البرنامج بأنه أكبر عملية اعتقال خارج النظام القضائي في الصين، منذ حقبة ماو في الخمسينات.
ثم مع بدء ظهور بعض الأصوات المنددة دوليًا، أعادت السلطات الصينية في كتابة القانون لإعطاء الشرعية بأثر رجعي لمعسكرات الاعتقال هذه، حيث يسمح القانون الجديد للسلطات باستخدام "مراكز تدريب المهارات المهنية" من أجل "محو النزعة الراديكالية لدى الأشخاص المشتبه بتطرفهم"! وبغض النظر عن القصة الخارجية، فقد أصبح من المتعذر إنكار وجود سياسات واسعة من الاضطهاد العرقي والديني.
لم تتغاضى الدول الغربية فقط عن جرائم السعودية في اليمن، بل تجاهلت أيضًا الإبادة الجماعية في ميانمار والقمع الفظيع ضد الإيغور في الصين
لماذا إذًا الغضب ضعيف جدًا تجاه هذه الفظائع؟ السبب الأول هو أن وصول وسائل الإعلام الغربية أمرٌ صعبٌ في ميانمار ويكاد يكون مستحيلًا في الصين. إنها إذًا تستند إلى ما يمكن أن تحدثه البروباغندا والتغطية الإعلامية من إثارة للحدث!
أما السبب الآخر فهو أن الضحايا في كلتا الحالتين غالبيتهم مسلمون، وهي قضية غير رائجة في الغرب في الوقت الحالي. والتفسير الأكبر في قضية الإيغور، هو أن أي شخص يدافع عن قضيتهم، يخاطر بإغضاب الحزب الشيوعي الصيني القوي والمنتقم وذي القدرات الكبيرة على إلحاق الألم التجاري والاقتصادي