في خضم الحالة السورية المشتبكة، يبحث الشعر والشاعر معًا، عن ثغرة من بين العوالم المتداخلة، لينفلت من دمويتها، معلنًا أفقًا إنسانيًا رحبًا للعيش، حتى وإن لزم الأمر رجوعًا إلى الحالة ما قبل إنسانية. هذا ما يخبرنا به باسم سليمان، الشاعر السوري في زمن الرصاص والدَّم.
سليمان له أعمال إبداعية عديدة تتراوح بين الشعر والقصة والرواية. كان أولها ديوان "تشكيل أوّل" (2007)، ثم مجموعة قصصية "تمامًا قبلة" (2009)، بعدها توالت الإصدارات التي نذكر منها: ديوان "لم أمسس" (2011)، ورواية "نوكيا" (2014)، وديوان "مخلب الفراشة" (2015)، وصولًا إلى آخر أعماله "الببغاء مهرّج الغابة" الذي يُنطق فيه الحيوان شعرًا. هنا حوار معه.
- "الببغاء مهرج الغابة"، ما المفترض علينا فهمه كقرّاء من هذا العنوان؟
العتبة العنوانية للديوان مجتزأة من مقطع شعري، أقول فيه:
"الببّغاء مهرّج الغابة
هو لا يقلّد أصوات الحيوانات
بل
صوت إنسان الغابة"
فالمهرج قد لعب دورًا مهمًا في إعادة تجديد الحياة، أكان ذلك على صعيد الأسطورة أو عبر تفريغ الاحتقان الوجودي القاتل، في بلاط السلطة أو في تراب الرعية، ومن هنا تظهر السخرية والتهكم كثيمة جوهرية للديوان، ومن عالم المثل والمتعاليات النصية للإنسان وأنساقه السردية الجنينية، والتي تعود إلى الظلال التي رسمتها ألسنة النار في كهفه الأول.
- قليلون هم الشعراء العرب الذين مثّلت لهم الغابة إلهامًا لقصائدهم، والآن إذ نجد في شعرك عودة إلى مملكة الحيوان، نسألك: ما دوافع هذه العودة؟
لنقل إنّ العودة إلى الغابة داروينية شعرية، وهذه الداروينية يكمن جوهرها في إعادة الاعتبار للصلصال بمواجهة الصلصلة! أليست "الصلصلة" هي صوت الوحي السماوي، كما يخبرنا الرسول؟ أليس الإنسان والكائنات الحيّة الأخرى صوت "الصلصال" الذي صُنعت منه الحياة على هذه الأرض؟ إنّ المفارقة الجناسية بين الصلصلة والصلصال؛ هي جوهر التهكّم من نسق ميتافيزيقي وفيزيقي (مادي) يريد من كلّ مختلف أن يعود إلى مؤتلف ما، سواء أكان سماويًّا أو أرضيًّا.
باسم سليمان: العودة إلى الغابة اعتراف بحق أسلافي الحيوانات والنباتات والجماد
إنّ في العودة إلى الغابة اعترافًا بحق أسلافي الحيوانات والنباتات والجماد في إبداع الشعر، لذلك كان الديوان ثورة الهامش الأحيائي على مركزية الإنسان، على متنه السلطوي المستمد من حيثية الروح، وتموضعه على قمة الهرم الموجودات على هذه الكرة المتدحرجة نحو المجهول، لذلك أقول:
"العين مرآة الرّوح
طوبى للذبابةِ
لها
ألفُ عين وعين"
لا ريب أنّ الفيلسوف إيسوب صاحب قصة النملة والصرصار وبيدبا وابن المقفع، هم آبائي الشرعيون في توجهي الكتابي عامة، وكل ما أبغيه هو أن أكون ولدًا عاقًّا لهم، لذلك كان ديوان: "الببغاء مهرج الغابة" محاولة لشطب مصادرة الوجود من قبل الإنسان، وإرجاع الحقوق إلى أصحابها الحقيقيين؛ من حيوانات ونباتات وجمادات.
اقرأ/ي أيضًا: سنان أنطون: تركت العراق لكنه لم يتركني
- أي حاجة ترونها للشعر في الرجوع إلى حالته البدئية؟
تكمن الحاجة في الكشف عن طاقة الشعر الخالقة. ينطلق الشعر من مفهوم "مبدأ الاسم"، حيث كان الشاعر القديم لا يستطيع الإلقاء قبل أن يتخذ مجموعة من الطقوس التعزيمية؛ كأن يشق إزاره أو قميصه، ويحلق نصف شعره، وينتعل في قدمه حذاء ويخلع الثاني من الأخرى. ساعتها يصبح لكلماته القوة القادرة على جعل مجرد نطق الكلمة قادرًا على إظهار الأشياء، فليس في زمن الشعر البدائي مسافة بين الدال والمدلول، فبمجرد نطق اسم شيء ما يحضر، وهذا ما نسبته الإلهة إلى نفسها؛ كن فيكون. تغيّر الزمن وأصبح الشاعر والشعر مجرد جماليات لغوية وفكرية، ولم يبق من سيرته البدئية سوى الإيقاع أكان في قصيدة العمود أو التفعيلة وكوني كاتبًا نثريًا لم يبق لي من الشعر القديم إلا "المشبّه به" من حيوانات ونباتات وجماد، أحاول منع انقراضها بعدما سيطرت المدينة التي طردنا منها أفلاطون، فأرد عليه كأحد أبناء الشعر القدامى، وأقصد السفسطائيين، قائلا:
"لا يمكن لجريجوري سامسا
إلّا أنْ يكون صرصارًا
لربما ذبابة
فلا يعقل أن يكون كلبًا
أو حتى ببغاء
فالصرصار ابن المدينة البار
أول من هجر البداوة
ورققّ ألفاظه
ولم يغضّ الطرف عن عوراتنا
وسكن بيت اﻷدب.
الصرصار ابن المدينة البار
لذا يبقى بعد الحرب
كأثرٍ عن اﻹنسان".
- ما هي العلاقة الرمزية التي يقيمها هذا الشعر بين واقعي كل من الإنسان والحيوان؟
يقول ريجيس دوبريه في كتابه "حياة الصورة وموتها" إن أول عمل فني كان القبر، فمواراة سوءة الموت هي ما دفعت الإنسان إلى ذلك، وتكاد تكون القبور هي أهم المعالم الفنية التي وصلتنا من الأقدمين. الموت هو الأب الثقافي للجمال، على عكس ما قاله درويش، فالفنون لم تهزم الموت بل جعلته ألطف، وبذلك أصبح العدو/الصديق. من هنا كانت محاولتي في "الببغاء مهرج الغابة" السخرية من الرمزية التي أسقطها الإنسان على الكائنات الحية والجامدة.
- أي حيوان يمثل الشاعر باسم سليمان؟ ولم؟
أنا غراب، لا تمثيل أو محاكاة، قد سبقني إليها الشاعر أميّة بن أبي الصلت وخاصة في نبوءة موته. والغراب هو زارع النخلة الأولى، وهو ممثل ماء الأنهار والينابيع وكل ماء باطني، ومُطعم النبي إيليا في منفاه، وهو يد الإله إنكي إله الماء العذب، وهو الدّال على بئر زمزم، وعند الهنود الحمر هو خالق الكون.
باسم سليمان: تكاد القبور القبور أن تكون هي أهم المعالم الفنية التي وصلتنا من الأقدمين
هناك الكثير من الأساطير العالمية التي تبرز أهمية الغراب الثقافية والميثولوجية، لكن الأهم أنه طائر ساخر ومتهكم.
- ما واقع الحال السوري، والإنسان السوري كذلك، في ديوان "الببغاء مهرج الغابة"؟
لا ريب أنّ افتقادي للإنسان في الواقع السوري في الحرب، هو ما كشف لي الحاجة للدفاع عن الحيوان والنبات والجماد، أكبر الخاسرين فيها. أليست هذه كوميديا سوداء في وجه المأساة السورية الكبرى؛ أن يكون همّي في خضم الموت اليومي أن أدافع عن جرادة أو نملة؟ سواء أكان الأمر واقعيًا أو رمزيًا؟ هناك شيء آخر، لقد أصبح الدفاع عن الإنسان في الحرب السورية تهمة يطلقها الجميع بحق الجميع، لذلك ككائن خائف عدت إلى الغابة التي قطعها الإنسان ليحوّلها إلى مطارق خشبية يصدر بموجبها الأحكام على نفسه والآخرين. و"الببغاء مهرج الغابة" الدليل أن يدي لم تتلوث بدموع أحد ما أو دماء أحد ما. أنا بريء من دماء ودموع السوريين كافة.
اقرأ/ي أيضًا: