بعدما أمست الدراما السورية قبل نحو 10 سنوات رقمًا صعبًا في المواسم الرمضانية، وفرضت نفسها بقوة كمنافس للدراما المصرية التي كانت تتصدر المحطات الفضائية، عادت مرة ثانية للتراجع خلال السنوات الخمس الفائتة بسبب تحولاتها التي أغرقت قصصها بأصناف مختلفة من التقلبّات التي كانت نسخة مقتبسة عن روايات سياسية مصطنعة وضعتها في عزلة داخلية، فاقتصر الاحتفاء بها على إطار ضيق لا يتجاوز الصحافة الرسمية أو شبه الرسمية، وصحافة المنوعات العربية.
"بدون قيد" هو مسلسل تفاعلي رقمي سوري، وهو يقدم مقاربة للحالة السورية الراهنة من خلال ثلاث قصص منفصلة/ مرتبطة فيما بينها
والدراما السورية، حتى التي أُنتجت خلال فترة الربيع العربي بعيدًا الرقابة السياسية، كانت دون المأمول لفشلها في تقديم دراما بديلة تخترق المحصنات التي كانت مفروضة في أطر من الخطوط الحمراء لم تكن مسموحة بحجج مختلفة التواصيف، غير أننا، ومن خلال المسلسل "بدون قيد"، نجد أنفسنا أمام دراما سورية مختلفة كليًا عن تلك المتعارف عليها في كافة الجوانب المشاركة بصناعتها.
اقرأ/ي أيضًا: جمال سليمان: السوق لا يريد أن يتحدث عن سوريا
بدون قيد.. دراما السوشال ميديا؟
في تجربة جديدة كليًا، عُرض قبل أيام المسلسل السوري – اللبناني "بدون قيد" عبر قناته الخاصة على يوتيوب، ليكون أول مسلسل درامي يتم إنتاجه بعيدًا عن الدراما التقليدية التي لن تجد مساحة لها ما لم تحصل على إعلانات مسبقة الدفع في أوقات العرض التلفزيوني.
القائمون على الفكرة الجديدة قدموا دراما مختلفة عن تلك التي كنّا نتابعها سابقًا، وكسروا فيها عزلة الدراما السورية على المستوى العربي إن صح القول هنا. أيضًا ابتعدوا عن نمطية العروض السائدة بتقديمهم عرضًا خاصًا بشبكة الانترنت، ويمكن متابعته من مختلف الأجهزة الذكية واللوحية. وأطلقوا عليه في تقديمهم "دراما تفاعلية ورقمية".
فالعمل رغم أنه لم يخرج عن عدد حلقات الدراما السورية المتعارف عليه (29 حلقة)، كان مختلفًا في فترته الزمنية حيثُ لا يتجاوز طول الحلقة الواحدة 3:50 دقيقة، ومجموع الحلقات نفسها لن يصل الساعة والنصف، وعند الدخول لقناة العمل الرسمية على يوتيوب يقرأ المتفرج تنويهًا مضمونه: "بدون قيد، مسلسل تفاعلي.. اختر بنفسك كيف تشاهد.. وتابع تداخل وتشابك قضية ثلاث شخصيات مختلفة".
اقرأ/ي أيضًا: شخصيات الأدوار الثانية في الدراما السورية
قصص مختلفة.. قصص متقاطعة المصائر
لم يكن بناء القصة الدرامية لمسلسل "بدون قيد" مختلفًا عمّا شاهدناه سابقًا في الدراما السورية، لكنها جاءت مميزة عن التجارب السابقة بعرضها لثلاثة قصص منفصلة/ مرتبطة فيما بينها، مع بداية ونهاية عوضًا عن السائد في الأعمال الدرامية (الحلقة الأولى/ الحلقة الأخيرة)، عند انتهاء المتفرج، من حلقة البداية سيكون أمامه ثلاثة خيارات تسمح له بمشاهدة القضية التي يريد أن يبتدئ بها المشاهدة.
والقصة نفسها لم تخرج عن الوضع السياسي السوري الراهن، فهي قدمت ثلاثة قصص من وحي المأساة السورية المعاشة يوميًا منذ سنوات ست منصرمة، فنحن لدينا قضية كريم (يامن منصور)، أستاذ الرياضيات، الذي يرى نفسه معتقلًا بسبب نشاط صديقه خلدون الناشط في الاحتجاجات السلمية، يجتمع في ردهة فرع الأمن السياسي مع ريم (عبير حريري) التي لديها قضية – منفصلة – مرتبطة بتحريرها ضبط بسبب سرقة هويتها الشخصية، الاجتماع مسببه مراجعة ريم للضابط المسؤول عن ملف الهويات في الأمن السياسي العقيد وفيق (رافي وهبي)، الذي لديه قضيته الخاصة ليرويها لنا، هكذا تتحول مصائر الأشخاص لقضايا تتقاطع فيما بينهم إلى أن يلتقوا عند الحدود السورية – اللبنانية حيثُ يفترق وفيق عن باقي الشخصيات بعدما فرَّ من سوريا.
في لحظات معينة من مسلسل "بدون قيد" تتحول الشخصيات إلى رواة، وهي محاولة للتعريف بهم اختصرت مشاهد قد تطيل من الفترة الزمنية، حيثُ يحضر التكثيف عوضًا عن الإطالة في السرد المشهدي، كما أننا سنكون أمام عناوين فرعية لكل حلقة، فعلى سبيل المثال جاء عنوان الحلقة الأولى من قضية ريم بـ"كلمة حرة"، والحلقة السابعة من قضية وفيق "حسابات قاتلة"، وبالطبع فإن البداية بقضية كريم.. ثم ريم.. وأخيرًا وفيق.. لن تؤثر على مضمون قصة العمل في إطارها الكامل في حال أردنا البداية بقضية وفيق.. ثم كريم.. وأخيرًا ريم..
بدون قيد.. كسر التابوهات المحرمة
من أكثر ما أثار الجدل حول مسلسل بدون قيد، تعدد المشاهد الحميمية أو الشتائم وهو ما لم يعتد عليها المشاهد السوري سابقًا
لكن أكثر ما أثير من الأحاديث عن مسلسل "بدون قيد"، كان الالتفات للمشاهد الحميمية التي قدمت في عدد من المشاهد، أو الشتائم التي كانت تخرج من ألسنة عناصر الأفرع الأمنية. قبل عامين تقريبًا قدم رامي حنا بالاشتراك مع السيناريست أياد أبو الشامات "غدًا نلتقي"، على الرغم من بعض الثغرات التي سادت النص الدرامي، إلا أن النص كان جريئًا بالإشارات الجنسية التي لم يعتد عليها المتفرج السوري سابقًا.
أما في "بدون قيد" فإننا أمام مشاهد حميمية قلّما نجدها في الدراما المعاصرة، ومثلها ستكون الشتائم حاضرة في جلسات التحقيق مع كريم داخل أقبية فرع الأمن، صورةٌ مختصرة عن العنف المفرط الذي عمّق من الوجع السوري، ومعها صورة خلدون المسربة لمواقع التواصل الاجتماعي مقتولًا في المعتقل، في تذكير بالـ11 ألف صورة التي سربها قيصر من داخل فرع الأمن العسكري بعد انشقاقه، وملف الهويات السورية التي صارت متاحة أمام الجميع بسبب انتشار عصابات التزوير، والتهام البحر لأجساد الباحثين عن حياة جديدة أكثر أمنًا في القارة الصناعية.
كل ذلك يضعنا أمام وجبة دسمة من الأحداث المكثفة المليئة بالقسوة، واكتشاف الذات المنهارة أمام أكثر اللحظات وجعًا، إنها قصة من بين آلاف القصص التي بقيت محبوسة بين الأنقاض مع أصحابها، أو لا تزال تنتظر من يرويها، وقد تكون متخيلة في بعض جوانبها كما يرى البعض، لكنها تحمل معها مقاربة للحالة السورية الراهنة التي تتصاعد قسوتها كل يوم أكثر من الذي سبقه.
اقرأ/ي أيضًا: