مثّل الروائي البشير خريف واحدًا من أهم مؤسسي الرواية التونسية، بل يعتبره بعض النقاد أب الرواية التونسية إلى جانب علي الدوعاجي زعيم "جماعة تحت السور" الثقافية الذي يلقب بـ"أبو القصة القصيرة التونسية".
ولئن كانت سلطة ما بعد الاستقلال قد توجهت نحو تكريس الكاتب محمود المسعدي عبر إدراج أعماله الأدبية في برامج التعليم، بينما ركن البشير خريف بعيدًا بسبب انتصاره لاستعمال العامية في الحوار وقربه من المهمشين وحياتهم، فإن البشير خريف ظل يشار إليه سرًّا وعلنًا على أنه الأقوى فنيًا والأعمق ونصوصه القصصية والروائية أكثر أصالة من المسعدي.
يجد المتأمل في موروث البشير خريف صدى لتلك الثقافة العالمية في مقالاته وشهاداته الأدبية وحواراته
ولكن لباس البشير خريف وهيئته وعالمه وتكوينه العلمي المحلي مقارنة بالمسعدي الذي يأتي من فرنسا جعلت الكثير من النقاد لا ينتبهون إلى ثقافة خريف الكبيرة، خاصة الغربية منها، حتى نبه إلى ذلك الناقد الكبير توفيق بكار عندما كشف في برنامج تلفزيوني أنه استغرب من سعة اطلاع البشير خريف على الرواية الفرنسية تحديدًا، وكشف أنه قرأ مدونات كاملة لبلزاك وزولا وفرنسوا مورياك وعلق ساخرًا إنه هو نفسه المقيم في فرنسا عقودًا لم يطلع عليها.
البشير خريف والثقافة الأدبية العالمية
يجد المتأمل في موروث خريف صدى لتلك الثقافة العالمية في مقالاته وشهاداته الأدبية وحواراته، ففي شهادته الأدبية "تجربتي القصصية" التي قدمها سنة 1968 ضمن أعمال ملتقى القصاصين المغاربة بمدينة الحمامات التونسية، تحدث مطولًا عن بلزاك وقصصه ورسائله وعن رواية كوخ العم توم لهارييت ستاو ورواية البؤساء لفيكتور هيجو. وتظهر سعة اطلاعه في مقالاته التي يعرض فيها مراجعات للروايات الأجنبية بمجلة الفكر، ونمثل لذلك بمراجعة لقصة " شباب ضائع " للإنجليزية دافني دي مورييه والتي سبق وقرأ لها قصة "ربيخة" ورواية محبات ثلاث لأرشيبالد يوسف كرونان. واطلاعة على أعمال وكافكا وولتر سكوت وميشال زيفاكو وألفريد دي موسي ولامارتين وسرفنتس وغوته وفولتار.
اقرأ/ي أيضًا: أفكار ألبيرتو مانغويل أو ذلك الفضولي في زي الحكاء
لم تقتصر ثقافة البشير خريف في الاطلاع على الأدب الغربي وحسب، بل أدلى برأيه في الرواية الجديدة في فرنسا وروادها، فيقول في أحد حواراته: "ما هي القيمة الفنية لأصحاب القصة الحديثة؟ ما قيمة آلا ن روب غريي أمام مالرو أو ساتر أو مورياك أو أو".
يقول بلهجته التونسية في حوار مع فوزي الزمرلي: "قريت لفكتور هيغو ولمرتين وشوية لبلزاك وشكسبير مترجم بالطبع وسرفنتس وكتابه دون كيشوط وترجمة الكوميديا الالهية لدانتي أليغياري وشيلر وغيوم تل". لكن هذه المعلومات هنا وهناك عن ثقافة البشير خريف العالمية ظلت عند المثقفين مجرد طرائف ولا أحد من النقاد حاول أن يقرأ منجزه في ضوء تلك القراءات وتلك الآداب العالمية. وظللتُ أنا كغيري من النقاد أقرأ أعماله مستحضرًا صورته في الجبة التونسية والشاشية والبرنس والايشراب القصير وسبسي الدخان الذي بين أصابعه، إلى أن التقيت بالدكتور فوزي الزمرلي، وهو أول من اهتم به من الجامعيين في مؤلف كامل بعنوان الكتابة القصصية عند البشير خريف، قبل أن يجمع أعماله الكاملة ويحقق جزءًا منها. وقتها اكتشفت شخصية أخرى للبشير خريف: الروائي العميق والمثقف الذكي. تواصل اهتمامي بتجربة خريف حتى أعدت يوما قراءة رواياته "برق الليل" التي كتبها سنة 1960 واكتشفت شيئا مثيرًا.
الجملة البدئية المخاتلة أو دون كيشوت
"بدأ حياته عبدًا للسيد حامد بن النخلي".
لم يمكن لهذا الاسم؛ "سيدي أحمد النخلي"، أن يمر على ذهني هكذا كما سبق ومر في قراءاتي الأولى لرواية "برق الليل". وخامرني شك أنني قرأت هذا الاسم سابقًا في كتاب آخر، وفجأة تجلى لي الكتاب؛ أم الروايات، تلك الرواية التي تقع في 1000صفحة في جزئين والتي عندما انتهيت من قراءتها سنة 2000 تساءلت لماذا ترك الكاتب هذا الرجل الغامض غامضًا؟ الرواية هي رواية دون كيخوته للإسباني ميغيل دي ثيربانتس. تلك الرواية التي تمثل إلى الآن الرواية الفارقة في تاريخ الرواية في العالم والتي أدخلت فن الرواية إلى الحداثة.
كلما تأملنا جيدًا النصوص المصاحبة للبشير خريف اكتشفنا أن الرجل قد اطلع على دون كيشوت لثيربانتس اطلاعًا دقيقًا
تابعت قراءة برق الليل وإذا بي في نفس الفترة التي تدور فيها أحداث رواية دون كيشوت الصراع الإسباني التركي في القرن العاشر هجريًا فترة القراصنة الأتراك في البحر الأبيض المتوسط.
اقرأ/ي أيضًا: الحبيب السالمي.. بكارة المكان ومجهر الثورة
كتب البشير خريف عن دوافعه الأولى لكتابة "برق الليل" سنة 1982 لمجلة "الفكر" ترجمة ذاتية يقول فيها: "في سنة 1947 التحقت بسلك المعلمين. وفي أول الخمسينات، اقتضى جدول عملي أن أباشر التلاميذ بعد الظهر. فبقيت حرًّا ضحى، فملأت فراغي بمطالعات كتب التاريخ. واهتممت بسبب تسمية باب بنات؟؟ فجرني إلى القرن العاشر، قرن القرصنة والفروسية. فبدأت قصة في الموضوع، فاتسع علي نطاقها واستطالت وتشعبت فألغيتها. ولكن كانت لي بمثابة التدرب، وحببت لي التفتيش في الكتب، فكنت أطرب لمطالعة نفس الحادثة يرويها مرجع تونسي وآخر اسباني وثالث تركي، وما بينهما من فروق".
والحق أن هذه الرواية لم تكن برق الليل بل هي رواية بلارة والتي شملت في داخلها رواية برق الليل. وقد انتزع البشير خريف قصة "برق الليل" منها لينشرها بعد أن فازت بجائزة مدينة تونس سنة 1960 ولم يعد إلى تطوير الأصل، ولم تظهر إلا بعد وفاته عن منشورات بيت الحكمة ثم في الأعمال الكاملة.
انعطفتُ أبحثُ عن سيدي أحمد النخلي في دون كيخوته وترجماته وفي الكتب التي ألفت عنه. وجدت أن عددًا من المستشرقين والمترجمين العرب ذهبوا إلى أن الاسم يقرأ هكذا: سيدي أحمد الإنجيلي لأنه متنصر والبيذانجاني يلقب به سخرية منه والإيلي، ولكن الباحث الإسباني خمينيث كاباييرو كان ينطقه "سيدي أحمد النخلي" كما ذكر ذلك الباحث العراقي حميد سعيد وكما كتب البشير خريف وكما ينطقه الكاتب الأرجنتيني البرتو مانغويل الذي خصص له فصلًا في كتابه "وحوش" (الساقي، 2020) في طبعة عربية بعنوان "شخصيات مذهلة في عالم الأدب"، لكن هل هذا يكفي لنقول إن بين "برق الليل" ودون كيشوت علاقة نصية ما؟
كلما تأملنا جيدًا النصوص المصاحبة للبشير خريف اكتشفنا أن الرجل قد اطلع على دون كيشوت لثيربانتس اطلاعًا دقيقًا، وكان يشير إليه بـ"كتاب الأسير" أحيانًا، والأرجح أنه اهتم به عندما اهتم بالتاريخ التونسي في القرن العاشر هجريًا كما ذكر.
تمثل شخصية "برق الليل" شخصية مفاهيمية تونسية لم ينتج الأدب التونسي ولا العربي مثالًا لها
في حوار تلفزيوني قديم، يقول البشير خريف مشيرًا الى ملفات روايته بلارة "هي قصة تتعدى حوادثها من عام 1535 إلى 1574، وهو الاحتلال السبنبور لتونس". ويذكر الدكتور فوزي الزمرلي في مقدمته للأعمال الكاملة متحدثا عن بلارة: "غير أنه لم يحاول نشر تلك الرواية، آنذاك. لأنه لم يتوصل إلى الإحاطة بالطور التاريخي الذي ضبطه لها إحاطة كاملة، ولم يتمكن من إقحام الأديب الإسباني ثيربانتس في أحداثها وتحرير الفصل الذي عزم، مثلما دلت على ذلك هوامش المخطوط، على تخصيصه لإبراز أن إقامته بتونس مع الجيش الإسباني واطلاعه على الحياة الأدبية والاجتماعية بها قد أثّرا في أحداث روايته الموسومة بـ"دون كيشوت".
اقرأ/ي أيضًا: حوار عن الجنس والموت والكتابة مع تشاك بولانيك مؤلف "Fight Club"
وبالرجوع إلى رواية بلارة كما حققها الناقد فوز الزمرلي، نجد إشارات كثيرة إلى ثيربانتس وعالم دون كيخوته حتى أننا نلتقى بمرداخو الفارس الشبيه بثيربانتس يتحدث إلى صديقه صانشو وهذا لا يمكن أن يكون من قبيل الصدف، بل إن قصصًا من قصص بلارة تكاد تكون متطابقة مع قصص من "دون كيخوته" لتبدو فكرة المحاكاة واضحة.
يكتب في رواية بلارة هذا الحوار: "يبارك المسيح الذي أنعم علينا بهذا النصر المبين وأعد لنا الخمر كي نتساقاه صانشو رفيقي تعال نبارك المسيح حول هذه الدنان العظيمة.
سأله صانشو: والأسيران الآخران؟".
ويقول في موضع آخر: "نشط النوتية في إصلاح مجلس بالأكياس والدنان والصناديق. أخذ مرداخو قيثارته وجلس فوق برميل وشبك رجلية وجس قيثارته مستخبرًا فصدر منها لحن إسباني تشوبه موسيقى أندلسية: به وجد وهيام وحنين إلى الديار من نغمة الكردي على وحدة ترقص. ثم أمسك وقد عم الطرب وتقدم إلى عيشة وقال لها:
ـ سيدتي الأسيرة. ألا تشرفيننا بحضورك فنسمر ونطرب.
ـ اذهب عني.
ـ إن قالت لك حسناء اذهب عني يجب أن تفهم: اقترب مني. هلم بصناديقكم إلى ها هنا. الحق معها فالحسن يؤتي ولا يأتي.
أسرع النوتية في تحويل المكان وهم في ضحك وحبور وقد دبت النشوة في الرؤوس.
ـ سترون كيف أسحرها بموسيقاي. صانشو حبيبي امسك لي الوزن على برميلك.
وعاود التوقيع وكان أطرب وأحلى من سابقه ثم تنهد مناجيًا نفسه:
ـ ما للموسيقى ترفع النفس وتعود بها أدراج الماضي الجميل فتقع على أحلى الأيام. تهيج الذكريات وتحيي الليالي الخوالي. أتذكر هذا اللحن يا صانشو الحبيب؟ إنه يذكرني بحلقات العذارى في ساحة البلد. بلد مرسية ذات الحدائق وهن يرقصن ويرمقننا ونحن مرتدون الثياب الملونة كالديوك".
يبدو هذا المشهد مقتطعًا من دون كيخوته لثيربانتس لكنه معارضة له في نية واضحة إذا ما تابعنا القراءة ورصدنا نظرة البشير خريف للاحتلال الاسباني ودفعه لشخصياته التونسية في حاضرة تونس في "بلارة" و"برق الليل" للتعاطف مع الأتراك بصفتهم مسلمين ضد الإسبان النصارى. ويعطي هنا صورة عكسية لصورة القراصنة المتوحشون الذين أسروا سرفنتس صورة الاسبان الذي يهينون الأسرى ويذلون النساء.
سيدي أحمد النخلي بين سيرفنتس وخريف
يظهر سيدي أحمد النخلي في رواية دون كيخوته كصاحب للمخطوط تاريخ دون كيخوته الذي عثر عليه سيرفنتس واستعان مترجم لينقله إليه من العربية إلى الإسبانية. صار سيدي أحمد النخلي من الفصل الثامن من الجزء الأول من رواية دون كيخوته صاحب الحكاية، وصاحب الحكاية هو صاحب الشخصية البطلة وخالقها، والخالق هو المالك، وكذلك سيدي أحمد النخلي في برق الليل فلم ينتظر ثمانية فصول ليظهر، فمن أول جملة يطل علينا مالكًا للحكاية، تلك الحكاية التي نسبها الراوي للبطل التونسي برق الليل. هذا البطل الذي بدأ حياته عبدا للشيخ سيدي أحمد النخلي.
رواية بيكارسكية
تمثل شخصية "برق الليل" شخصية مفاهيمية تونسية لم ينتج الأدب التونسي ولا العربي مثالًا لها. فشخصية هذا العبد المتمرد الذي يعيش حياة معقدة في تونس الحاضرة بعد أن وصلها عبدًا التقط من أفريقيا الوسطى تتقاطع مع شخصية دون كيشوت تقاطعًا عميقًا يمكن إدراكه بمقارنات عديدة في إطار المحاكاة الساخرة أو المعارضة. فبرق الليل عبد بينما دون كيشوت يعرف من العنوان بأنه النبيل. وهنا ينتصر البشير خريف لعالمه؛ عالم المهمشين الذين لا يصنعون التاريخ عادة ليجعل العبد يكتب تاريخ البلاد ويدير أحداثها.
رواية برق الليل كرواية دون كيخوته المتمرد الساخر الذي يريد أن يغير العالم عبر حروب صغيرة تراجيدية يخوضها دون التفكير في عواقبها
برق الليل كدون كيخوته المتمرد الساخر الذي يريد أن يغير العالم عبر حروب صغيرة تراجيدية يخوضها دون التفكير في عواقبها، والتي تنتهي كل واحدة منها بخسائر فادحة كتعرضه للضرب وغيره من أشكال العقاب. فيبدو مثيرًا للشفقة تارة، ومجلبة للسخرية والضحك تارة أخرى، وهذا ما يذكرنا بما يحدث لدون كيشوت في مغامراتها.
اقرأ/ي أيضًا: سالينجر في حياته الحميمية
وبرق الليل كما دون كيخوته كائن واهم، يرى أشياء كثيرة ويلاحق أوهامًا وسرابًا. وهو كما دون كيشوت هو بطل مضاد بلا مؤهلات. فكما كان دون كيخوته رجلًا خمسينيًا ضعيف البنية يحمل إكسسوارات مهترئة لفارس سابق ويخوض مغامرته على حصان هزيل، كان بطل خريف من العبيد شاب أسود عبد للخيميائي الشيخ سيدي أحمد بت النخلي، ولذلك لم يكن يحمل مؤهلات فارس حر، بل عبد مقيد بعقود، غير أن كلاهما يقرر أن يتحدى العالم فيتمرد على واقعه البدني والوضعي ليحقق أحلامه؛ أحلامًا صغيرة لا تعنيه هو بشكل خاص.
كان كلامها، برق الليل ودون كيخوته عاشقًا، وذلك العشق هو الذي قوى كلاهما، والفروسية لا يمكن أن تكتمل إلا بوجود معشوقة. وكلاهما كان يركض بلا توقف وراء أحلامه فبينما كان دون كيخوته يركض في إسبانيا بين قراها ومدنها كان برق الليل يركض في حواري المدينة وأزقة الحاضرة وأسطحها، وبينما كان دون كيخوته يعشق الكتب وقصص المغامرات والفروسية كان "برق الليل" يعشق العزف والرقص.
ويبدو أن اهتمام الإسبان والمترجمين الإسبان مبكرًا برواية برق الليل دون غيرهم كان بسبب هذه التقاطعات، ونوعية تلك الرواية الشطارية والشخصية البيكارسكية، وقد اكتشفنا أن برق الليل ترجمت إلى الإسبانية منذ سنة 1982، وبترجمة إسبانية وفي دار نشر إسبانية، بينما اهتم الفرنسيون بروايته الأخرى الدقلة في عراجينها وترجمت إلى الفرنسية تحت إشراف الجزائرية آسيا جبار، وهذا أيضًا شبه مجهول في تاريخ النقد العربي والتونسي. ولعل في العود إلى قراءة برق الليل قراءة جديدة تحقيقًا لأمنية البشير خريف الذي قال يومًا متحسرًا: "كان في نيتي الاستمرار في تتبع أعمال" برق الليل، تلك الشخصية التي أحببتها والتي تمثل البساطة والصراحة، وذلك لأنني لا أحب قتل أبطالي بل أحب لهم الاستمرار والخلود".
اقرأ/ي أيضًا: