المشهد الأول:
قبل أن تذرو الرياح رماد النيران الباقية إثر حرب 1973، أعلن الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 1977، عن استعداده لزيارة الكنيست الإسرائيلي، في جلسة خاصة أمام مجلس الشعب المصري، وفي حضور زعيم منظمة التحرير الفلسطينية، الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. جاء الإعلان بكلمات قليلة حاسمة للحد الذي لم يؤخذ على محمل الجد في ساعاته الأولى، واعتُبر خطابًا مجازيًا يعكس جرأة السادات وشططه. لا الحاضرون، ولا الشعب المصري، ولا الجانب الإسرائيلي، استوعب الأمر قبل أن يدخل مرحلة الجدية. جاءت الكلمات واضحة: "وستدهش إسرائيل حينما تسمعني الآن أقول أمامكم، أنني مستعد أن أذهب إلى بيتهم، إلى الكنيست ذاته، ومناقشتهم".
أُشيعت روايات كثيرة حولة عملية سليمان خاطر، من كون الإسرائيليين المتسللين مجرد سائحين، ونُسجت حكايات للتشكيك في درجة الاتزان العقلي له، لكن ردود خاطر في التحقيقات دحضت تلك الأقاويل
المشهد الثاني
الرئيس السادات أول زعيم عربي يزور الأراضي المحتلة وفي استقباله جميع قادة إسرائيل بعد عشرة أيام من خطابه في مجلس الشعب المصري، وفي اليوم التالي 20 تشرين الثاني/نوفمبر 1977 يلقي بكلمته الشهيرة أمام الكنيست الإسرائيلي التي جاء فيها: "ولكنني أقول لكم اليوم، وأعلن للعالم كله، إننا نقبل بالعيش معكم في سلام دائم وعادل ولا نريد أن نحيطكم أو أن تحيطونا بالصواريخ المستعدة للتدمير أو بقذائف الأحقاد والكراهية، ولقد أعلنت أكثر من مرة أن إسرائيل أصبحت حقيقة واقعة اعترف بها العالم، وحملت القوتان الأعظم مسؤولية أمنها وحماية وجودها".
المشهد الثالث
السادات يصافح رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيجن، يتناقشان ويتهامسان تارة، ويتبادلان الضحكات تارة أخرى.
المشهد الرابع
السادات يصافح مناحم بيجن، بحضور الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، بعد توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل في العاصمة الأمريكية واشنطن، 26 آذار/مارس 1979.
المشهد الخامس
السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1981، السادات يشهد عرضًا عسكريًا احتفالًا بذكرى نصر أكتوبر، وفي نشوة انتصاره تنهال الرصاصات عليه من منفذ عملية الاغتيال خالد الإسلامبولي.
المشهد السادس
الجندي المصري سليمان خاطر يطلق النار على إسرائيليين حاولوا التسلل إلى المنطقة العسكرية التي يحرسها في منطقة رأس برقة بجنوب سيناء في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 1985، أدى إطلاق النار إلى قتل سبعة إسرائيليين، وأُحيل خاطر للمحاكمة العسكرية وحُكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة لمدة 25 عامًا، فيما تقدم الرئيس المصري الراحل حسني مبارك باعتذار للجانب الإسرائيلي.
أُشيعت الكثير من الروايات حول الواقعة من الجانبين، حيث روّج لكون الإسرائيليين المتسللين مجرد سائحين، ونُسجت الحكايات حول التشكيك في درجة الاتزان العقلي لسليمان خاطر، والتقرير النفسي الذي صدر بعد الحادث أعلن أن خاطر "مختل نوعًا ما"، ولكن ردود خاطر في التحقيقات دحضت تلك الأقاويل.
قال خاطر في محاكمته: "أنا لا أخشى الموت ولا أرهبه، إنه قضاء الله وقدره، لكني أخشى أن يكون للحكم الذي سوف يصدر ضدي، آثارًا سيئة على زملائي، فيصابوا بالخوف وتُقتل فيهم وطنيتهم.. أنا جندي مصري أدى واجبه".
المشهد السابع
سليمان خاطر مشنوقًا في زنزانته!
بعد تسعة أيام من سجنه، وفي 7 كانون الثاني/يناير 1986، أعلنت الصحف المصرية وفاة خاطر منتحرًا عن طريق شنق نفسه في زنزانته. أثار موت خاطر الشكوك، ورُجّح تورط السلطة المصرية في قتله كهدية وإرضاءً للجانب الإسرائيلي، خاصة بعدما تقدمت أسرة خاطر بطلب لتشريح الجثة عن طريق لجنة مستقلة لمعرفة سبب الوفاة، وقوبل الطلب بالرفض.
المشهد الثامن
المجند المصري أيمن حسن يقتحم الحدود الإسرائيلية، ويهاجم عددًا من جنود جيش الاحتلال ويتسبب في مقتلهم شمال غرب إيلات ويعود ليسلم نفسه إلى القيادة المصرية في 26 تشرين الثاني/نوفمبر 1990. قال حسن أنه نفذ هجومه، ردًا على الإساءة الإسرائيلية للعلم المصري، وردًا على مذبحة المسجد الأقصى الأولى.
الثابت هو الاحتفاء المصري والعربي بعملية الجندي محمد صلاح واستحضار سيرة سليمان خاطر وأيمن حسن، ويبقى رفض الشعوب للتطبيع مع كيان الاحتلال أعلى وأكثر تأثيرًا من جميع اتفاقيات السلام
المشهد التاسع
أجلس في زنزانة "الإيراد" في سجن طره تحقيق بالقاهرة، في بداية فترة اعتقالي السياسي عام 2018، وأغلب زملاء الزنزانة ينتمون لتيار الإسلام السياسي، يدخل علينا مجموعة من الشباب المرتبكين المتحفظين، يبدو على هيئتهم عدم انتمائهم لجماعات دينية، ويبدو في حديثهم الجهل بموضوعات السياسة وصداعها.
بعد القليل من الثقة بيننا، أخبروني بسبب القبض عليهم، هم فنانون مسرحيون قاموا بعرض مسرحي عن "سليمان خاطر" على مسرح نادي الصيد، ارتأت السلطات المصرية في العرض، إساءة للقوات المسلحة، فحاكموهم عسكريًا.
المشهد العاشر
يوم السبت الماضي، الثالث من يونيو/حزيران الجاري، اقتحم الجندي المصري محمد صلاح، الحدود الإسرائيلية عند معبر العوجة، وتسبب في مقتل ثلاثة جنود إسرائيليين وإصابة اثنين آخرين، تقول الرواية المصرية أنه كان يطارد مهربين، وهناك حالة من التعتيم والصمت الإعلامي حول الواقعة، بينما تحبذ الرواية الإسرائيلية كونها عملية أمنية، وما زال الإعلام العبري ينشر المزيد من التفاصيل والمعلومات، بل أن الإعلام العبري هو الذي نشر هوية وصورة الجندي المصري، بينما لا يزال الصمت هو المسيطر من الجانب المصري.
قتلت قوات الاحتلال الجندي المصري ونُشرت صورة للسلاح الذي استخدمه، سلاح روسي قديم طراز أيه كيه – 47 أو المعروف في مصر باسم مخترعه كلاشنكوف، والمعروف أيضًا بين العساكر بـ 7.62 × 39 ملم، وهو عيار الطلقة المستخدمة للسلاح.
استخدم الجيش المصري هذا السلاح على نطاق واسع، خاصة في تأمين الوحدات والكتائب العسكرية، وتسليح الأفراد بالأسلحة الخفيفة، ولديه أعداد ضخمة في مخازن السلاح، إلا أن كثير منها تكاد تكون متهالكة وصدئة، كما ظهر في الصورة المنشورة.
بسلاح صدئ متهالك، نفذ الجندي عمليته، وبغض النظر عن الرواية الصحيحة للحادث، إذا ما كانت عميلة مطاردة للمهربين، حسب الرواية المصرية، أو بدافع وطني وحافز داخلي، أو عملية فردية غير معلن دوافعها بوضوح، لكن المعلومات تشير إلى نية مبطنة وتخطيط مسبق، حسب الرواية الإسرائيلية، ويبقى الثابت الواضح للعيان هو الاحتفاء المصري والعربي بالعملية واستحضار سيرة سليمان خاطر وأيمن حسن، ويبقى رفض الشعوب للتطبيع مع كيان الاحتلال أعلى وأكثر تأثيرًا من جميع اتفاقيات السلام وتطبيع الحكومات.