منذ بدء حصار قطر، استأنفت دول الحصار بذل جهود واسعة وأموال بالملايين لشركات الدعاية العامة، لاسترضاء الإدارة الأمريكية وتعزيز موقعها. مع ذلك، لم يكن موقف إدارة دونالد ترامب حاسمًا على ما يبدو، على الأقل بعد سنة وشهرين من بدء الأزمة الخليجية. وبغض النظر عن الانقسامات في مواقف مؤسستي الرئاسة والخارجية، على زمن الوزير المُقال ريكس تيلرسون، فإن علاقة قطر مع دولة بحجم تركيا، أفادتها أكثر من علاقتها بواشنطن، كما اتضح من الموقف التركي المؤازر للدوحة. وفي النهاية ماذا حدث؟ دول حصار قطر أمام القضاء الدولي، وما زالت السعودية التي بذلت أموالًا طائلة، وبطيش يمكن القول إنه غير مدروس حتى، لإقناع البيت الأبيض بديباجة دعم قطرللإرهاب، تُحاكم وتدفع التعويضات في المحاكم الأمريكية، بتهمة التخطيط لأحداث 11 أيلول/سبتمبر، ولا يلبث شبح قانون جاستا ومطالبات عائلات ضحايا "غزوة مانهاتن" بمحاكمة السعودية، أن تتعرض للتهميش من قبل الإدارة الأمريكية بفعل الرشاوى السعودية، حتى تعود بحجج وأدلة ومجادلات أصرم من ذي قبل.
في حين يتخبط حلفاؤه في المنطقة، باستثناء إسرائيل، يبدو أن أعداء ترامب، هم الأكثر استفادة منه إلى الآن
أما الدعاية الرخيصة عن الأمير الليبرالي الذي سينقذ المملكة من سنوات الظلام القروسطية، فلم تصمد بضعة أيام. ولا يكاد يمر يوم بدون تقرير أممي يدين انتهاكات السعودية الحقوقية في الداخل أو في اليمن. أما الدعم اللوجستي الأمريكي لقوات التحالف، فمن غير المعروف ما أهميته، ومن المستبعد أن يكون دوره ذا تأثير.
اقرأ/ي أيضًا: الصحافة زمن ترامب.. حصار بالجنون
من الطريف القول إن أعداء ترامب يكسبون من هذا العداء أكثر مما يكسب حلفاؤه. لكن هذه الملاحظة قد تبدو جدية في الفترة الأخيرة، ومدعومة بشواهد أيضًا، والمقصود بالحلفاء هنا من هم في مستوى السياسة الخارجية، إذ إن حكاية تشويش ترامب للسمعة الأمريكية الرديئة أساسًا، وفعاليته المصلحية خاصة للسوق الأمريكي ترسم خريطة إفادات من النهج الترامبي على مستوى الأوليغارشية الأمريكية، يصعب مقاربته ودمجه بحفلة الجنون العالمية في سياسات الإدارة الحالية خارجيًا.
قبل أشهر، هدد دونالد ترامب فنزويلا بالتدخل العسكري. وكان هناك اعتراضات داخل المؤسسة الأمريكية بأن الرئيس المتهور، يقوم بدعم الاستبداد من خلال تهديده. بمعنى أنه يصدر تهديدات من المستبعد جدًا أنها ستطبق على أرض الواقع، ويعزز بالتالي من سردية نظام نيكولاس مادورو في فانزويلا، القائمة أصلًا على فكرة أن النظام مستهدف من الإمبريالية. وقد اتفق زعماء أمريكا اللاتينية مع ذلك حسب تقارير أصدرتها وكالة أسوشيتد برس. وبالنسبة لمسؤولين أمريكيين كثر، حسب نفس هذه التقارير، فإن دونالد ترامب يقوم بتعزيز وجود أنظمة استبدادية من خلال استعدائها خطابيًا.
كانت المسرحيات التي ضرب دونالد ترامب فيها النظام السوري، بغارات سريعة وغير مؤثرة بالمرة، ومنسق حولها مسبقًا مع روسيا، جزءًا من هذا السيناريو الجديد. تلقف النظام السوري هذه الضربات، باعتبارها لحظة فارقة في مسار سرديته "الممانعة"، ومع أنه كان صامتًا إزاء التدخل الأمريكي في مناطق لا يسيطر عليها في البلاد، مثل التدخل ضد تنظيم داعش في الرقة، أو دعم الميليشيات الكردية. وبالتأكيد، فإن الصمت الأمريكي حيال جرائم النظام، متبوعًا بتهديدات كلامية لا أكثر ولا أقل، ثم ضربات طفيفة وغير مؤثرة، كان هدية ثمينة تلقاها بشار الأسد المتنعم اليوم بحسن تنسيق موسكو- تل أبيب بشأنه، ورضا صناع القرار الإسرائيلي عنه "جارًا" مفيدًا لأمن الحدود الشمالية، وفي بالهم مستويات الخديعة التي يمكن له أن يوقع مليشيات إيران وحزب الله اللبناني فيها مدعومًا بالورقة الروسية الفارقة في الملف السوري، ومتسعة التأثير كما يبدو في فضاء حدود جنوب لبنان الهادئ مع فلسطين المحتلة.
تبدو الحالة في إيران وتركيا أكثر تعقيدًا. لكنها لا تبتعد كثيرًا عن هذا المنطق. يعاني نظام ولاية الفقيه الإيراني من أزمات اقتصادية منفصلة عن العقوبات الأمريكية، رغم أهميتها، ويعمل على تمويل مجموعة كبيرة من الميليشيات في المنطقة العربية وغير العربية، ويتدخل بشكل مباشر في بلدان عدة. أما في تركيا، فإن الرئيس رجيب طيب أردوغان، يمارس سلطة مطلقة على المؤسسات المالية، ويتزمت بموقفه العقائدي ضد رفع سعر الفائدة، رغم جميع نصائح الخبراء بأن تقليل سعرها سيسبب تضخمًا، كما أنه يتسلط على البنك المركزي، وقد عين صهره قبل فترة وزيرًا للمالية. وهناك بطبيعة الحال ظروف خاصة لا تتعلق بالأزمة الأخيرة مع البيت الأبيض، تقف وراء ما يعانيه الاقتصاد التركي هذه الأيام، وما تواجهه تركيًا جيوسياسيًا أمام مسؤولية اللاجئين وأشباح الانقلاب المرعي من حلفاء باراك أوباما ورجال الإمارات، وغيرها من التعقيدات الشاهقة التي ترهق دولة بحالة تركيا، تسبح في مضيق منطقة لا يعوزها مزيد من الذبذبات.
اقرأ/ي أيضًا: إشكالية خطاب ترامب ضد فنزويلا.. إعادة إنتاج النظام عبر تهديده
وفي حين مثل الانسحاب الأحادي من الاتفاق النووي، وتهديدات ترامب البائسة، التي جعلها الموقف الأوروبي من الملف الإيراني أكثر بؤسًا، فرصة نادرة للرئيس الإيراني المعتدل حسن روحاني، ونظام المرشد الأعلى، أمام موجة الاحتجاجات العارمة التي كانت قد اجتاحت إيران، فإن أردوغان وجد الشرعية ليمرر الكثير من إخفاقاته في الملف الاقتصادي بحجة المؤامرة الأمريكية.
الأهم أن هناك نوعًا من العلاقات الجديدة الناشئة، التي تستعين بها الدول المتضررة من سياسة ترامب وحلفائه المتهورة، مثل تركيا وإيران، وجزئيًا روسيا، وربما الصين، وهنا لا يفترض أن يغيب تكتل البريكس ومثله تكتلات آسيوية شبيهة عن البال، التي فرض البيت الأبيض عليها جمارك إضافية، خوفًا من "إغراق السوق الأمريكي" بالبضائع الصينية. كل هذا وفي خلفية المشهد يتخبط حلفاء ترامب "الكلاسيكيون" في المنطقة، باستثناء إسرائيل، بينما يبدو أن أعداء ترامب، هم الأكثر استفادة منه إلى الآن، ربما ليس بالمعنى الحسابي المباشر، بقدر ما هي مسألة متعلقة بالتراكم وسلك الدروب البديلة، والإفادة من المعطيات القسرية للسياسة الدولية في زمن مغامرات ترامب "الدبلوماسية".
اقرأ/ي أيضًا: