أطلق إعلان الانتهاء من أعمال ترميم تمثال حافظ الأسد، في الدوّار الجنوبي لمدينة حمص، السجال حول معقولية الحدث من جهة، ودلالاته الرمزية من جهة أخرى، في وقت لا تزال فيه آثار الخراب المعمم التي تسببت به سياسات السلطة الحاكمة تتصدر المشهد اليومي لحياة ملايين السورين، الذين يصارعون من أجل البقاء. المعارضون لهذا الترميم وجدوا فيه تأكيدًا لآرائهم السابقة حول طبيعة النظام اللاعقلانية في إدارة موارد البلاد القائمة على ثنائية الهدر والنهب، فبدلًا من أن يستثمر المبلغ في إعادة إعمار البنية التحية المدمرة، يصر على استثماره في تحسين وتجميل رموز سلطته، وسط محيط لا متناه من القبح، يقف على رأسه مدينة حمص، التي أحالتها آلاته العسكرية الجهنمية إلى نوع من العجينة الإسمنتية العديمة الملامح. أما الموالون فيجادلون أن عملهم يمتلك كل المشروعية التي تجعل منه عملًا عقلانياً بامتياز، كونه يرمز إلى عودة الأمن والأمان، اللذين بدونهما لا يمكن البدء بورشة إعادة الإعمار التي ستنهض بالبلد من جديد.
آثر حافظ أسد أن يتعامل مع السلطة، كما لو كانت مكافئة على نزاع ضار بين ندين، حسم الصراع بينهما لصالحه
في قراءة متمعنة لمشهد السجال السابق بين المعارضة والموالاة حول معقولية أو لامعقولية ترميم تمثال الأسد؛ يكتشف المرء أن السجال السابق لم يكن يجري على خلفية الحدث ذاته، بقدر ما كان يتم على خلفية تفسير الدلالات أو الرسائل المشفرة التي يحملها التمثال نفسه لجمهور متلقيه، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن الشروط التي تجعل من العمل الفني، وهو في مثالنا تمثال الأسد، حمّالًا لرسائل تخرج عن طبيعته الجمالية، لتندرج في حقل آخر مغاير تمامًا له، كالأخلاقي أو السياسي. إلا أنّ أي محاولة لفهم هذه الشروط لا بد أن تأخذ بعين الاعتبار الظروف التي أحاطت بالأسد الأب عند وصوله للسلطة وإمساكه بها على نحو مطلق.
اقرأ/ي أيضًا: حافظ الأسد وساسوكي
في اللحظة التاريخية الموافقة لـ 16 تشرين الأول/أكتوبر 1970، المعروفة سوريّا بالحركة التصحيحية، التي تمكن فيها حافظ الأسد من إمساكه بالسلطة على نحو شامل وكلي، كان على الرجل أن يحدد فهمه لطبيعة السلطة التي آلت إليه، أي طبيعة ونوعية الأهداف الكبرى التي سيسعى لتحقيقها، والتي ستحدد بدورها طبيعة النظام السياسي، ومن ثم دوره الشخصي في هذا النظام. ففي حين كان من المستبعد جدًا أن يستخدم سلطته بالتمهيد لعودة النظام البرلماني الذي عرفته سوريا، أثناء وبعد الانتداب الفرنسي، الذي كان يتحكم في مدخلاته ومخرجاته كل من طبقتي الأعيان أي ملاك الأراضي و برجوازيي المُدن، الذين تجمعهما علاقة نزاع دائم مع فلاحي الأرياف الذين ينتمي الرجل إليهم. كما لم يكن الرجل مشدودًا لنموذج رجل السلطة المتنطح، للعب أدوار بطولية كبرى تسهم إسهامًا كبيرًا في تغير البنى الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، على غرار جمال عبد الناصر، الذي لم يفكر بتوريث السلطة إلى أحد من أبنائه، ربما لقناعة داخلية لديه ألا أحد مؤهل للقيام بهذه المهام الرسولية غيره.
آثر حافظ أسد أن يتعامل مع السلطة، كما لو كانت مكافأة على نزاع ضار بين ندين، حسم الصراع بينهما لصالحه، وفاز فيه الشخص الأفضل والأدهى والأقوى، الأمر الذي لم يؤهله فقط ليحكم الأشخاص الذين وقفوا إلى جانبه سواء من أبناء حزبه أو طائفته السياسية بل خصومه المهزومين بوصفه الرجل الأوحد، فيما سيحكم بقية أبناء المجتمع كما يحكم الملك أو المتغلب أو الفاتح رعاياه باعتبارهم مجرد تابعين أو عبيد، يفتقدون لأي حقوق سياسية، الأمر الذي سيجعلهم عرضة لقانون السيد الجديد القائم على الإخضاع.
كما سيؤهله ذلك الانتصار للتعامل مع ممتلكات الخصم المهزوم وهو في حالتنا المجتمع والدولة السورية معا كغنيمة حرب كبرى، ستؤول فيها جميع موارد الإنتاج العامة كالثورات الباطنية مثلًا وأدوات الإنتاج كمصانع الدولة وممتلكاتها إلى ملكيته شخصيًا، بوصفه الشخص المتغلب في هذه المنازلة الكبرى، الأمر الذي يفسّر لنا إصرار حافظ الأسد طيلة فترة حكمه على إبقاء مبيعات النفط السوري جزءًا من أسراره الخاصة، التي لا يسمح لأحد بالاقتراب منها، إلا لدواعي المساهمة في تأمين تدفقها لحسابه الشخصي.
أثّر نجاح الأسد بالتفرد بالسلطة، ووضوح طبيعة المهمة التي ستتكفل السلطة بإنجازها في ذهنه، والتي لن تتجاوز حق التمتع الفردي بالخيرات المادية والمعنوية للسلطة، مع التأكيد على نقل هذا الحق من الأب المؤسس إلى الأبناء والأحفاد.
بدى الأسد مصرًّا على نقل حقه في التفرد بالسلطة باعتبارها استحقاقًا أو مكافأة أو غنيمة حرب من حيّز الواقع العملي إلى الحيّز القانوني. فتفرد في صياغة دستور 1973، الذي جمع فيها كل السلطات الدستورية الثلاثة في يديه، فمن خلال تضخيم صلاحية رئيس الجمهورية، التي جعلها حكرًا على نفسه، استطاع أن يبطل فعالية السلطة القضائية عبر ترأسه لمجلس القضاء الأعلى، واحتكاره حق تعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا. وفي محاولة منه لتقييد صلاحية السلطة التشريعية ممثلة بمجلس الشعب، منح لنفسه صلاحية إصدار القوانين التشريعية منفردًا أي دون موافقة البرلمان، كما صلاحية حجب تشريع ما سبق للبرلمان أن أقره. الأمر الذي لا يترك مجالًا للشك بأن الرجل لم يقدم نفسه لنا إلا باعتباره رجلًا مطلق الصلاحيات، وترك لنا نراه إما ملكًا كلي القدرة، أو زعيمًا شعبيًا على الطريقة السّوفييتية أو الألمانية، وهو في الحالتين لم يكن يفضّل أن يتماهى إلا مع الملوك على الطريقة الشرقية الذين يزاوجون عمدًا بين أفعالهم البشرية والإلهية.
كان حافظ الأسد يعي أنه لإقامة حكم عائلي صلب ومديد، يجب أن ينهض على القداسة التي تقوم على ثالوث الخوف والطاعة والخير
كان حافظ الأسد يعي أنه لإقامة حكم عائلي صلب ومديد، لا يكفي لتوطيده أن ينهض على القوة العارية، ولا على الصلاحيات المطلقة، بل يجب أن ينهض على القداسة، التي تقوم بدورها على ثالوث الخوف والطاعة والخير. وهو الدور الذي يؤديه الله في حياتنا. فنحن نطيع الله أو نعبده لأننا نؤمن بأنه سبب وجودنا، كما هو سبب الخير التي نتحصل عليه منه، لذا نحرص كل الحرص على تجنب معصيته، كي لا نستحق غضبه وننال عقابه. في سبيل ترسيخ فكرة "الزعيم المقدس" في وجدان كل سوري لجأ حافظ الأسد إلى الدعاية، التي سلم مقاليدها إلى وزير إعلامه الشهير أحمد إسكندر أحمد، الذي تسلم المهمة من عام 1974 حتى وفاته عام 1983.
اقرأ/ي أيضًا: حافظ الأسد.. ذاكرة الرعب
قامت خطة الوزير على فكرة بسيطة، هي إنزال الرئيس من برجه العاجي في القصر إلى وجدان وبصر وعقل كل سوري، كما لو كان يريدنا أن نعرفه كما نعرف الله، وذلك عبر تقنية الصور التي جعلت صورة الرئيس متاحة حتى لكل أعمى بصيرة، تلك الصور التي لم تبق مجالًا عامًا أو خاصًا إلا واخترقته، إلى الدرجة التي وصلت في جرأتها إلى وسط غرف نوم البعض منا. ومن ثم ربط صورته بفكرة الخير المطلق، سواء من حيث تصوير كل زيادة طبيعية في الرواتب على أنها مكرمة أو منحة من منحه الكثيرة. أو من حيث ربط ظهوره على التلفاز إما بالإعلان عن افتتاح مشروع جديد تارة، أو الإعلان عن الانتهاء من مشروع سابق تارة أخرى.
هكذا وبعد أن نجح الإعلام بالمزواجة بين صورة الرئيس والخير، كان عليه أن يوجه أنظار الناس ليكتشفوا العلاقة بين خير الرجل وحكمته، ومن ثم بين حكمته وأهمية ديمومتها. إلى الدرجة التي أجبر السوريين فيها على أن ينخرطوا في ترديد شعار "قائدنا إلى الأبد.. الأمين حافظ الأسد" بحماس فولاذي، على الرغم من الوعي الشعبي الذي لا يستسيغ ربط صفة الألوهية والتأبيد في الأشخاص الفانين. إلا أن الغاية الرئيسية لهذا الغزو البصري لصور القائد الملهم، لم تكتمل مهمتها إلا بعد أن تم الربط بين صورة الرئيس والقداسة، لا من حيث عدم التجرؤ على شتم الذات الرئاسية وحسب، بل من حيث اعتبار كل نقد لقرارات السيد الرئيس أو العمل ضد مشيئته نوعًا من التمرد عليها، يستوجب العقاب، الذي يتدرج من السنة الواحدة على الأقل إلى العشرين عامًا في المتوسط، هذا إذا نجا المُعَاقَب من حفلات التعذيب السادية.
تحول حافظ الأسد من رئيس جمهورية مغمور إلى منزلة الأخ الأكبر كما في رواية "1984" لجورج أورويل "الشخص الحاضر في كل مكان والعالم بكل شيء، والمعاقب على نحو لا يرحم".
كما تحولت صوره التي تحمل ألقاب القائد الخالد أو الأب الخالد ليس إلى نوع من الأيقونات المقدسة فحسب، بل إلى نوع من الصور التي تحمل رسائل السطوة والهيبة وفرائض الطاعة على الأشخاص الذين يقعون في حيّز مداها البصري. لا بفعل قوتها السحرية بالطبع وإنما بما تستدعيه من عقاب مديد مصحوب بالتعذيب وهدر الكرامة البشرية.
لا يمكننا فهم رغبة حافظ الأسد بالاستثمار بالتماثيل، بعد أن نجح في تعميم فكرة "الأخ الأكبر" القائمة على المراقبة والعقاب، من خلال الصور، والأقوال، والشعارات، والمهرجانات، إلا إذا تعرفنا على طبيعة الرسالة التي يمكن للمجسّمات البشرية أن تضيفها إلى شخصية الزعيم أو "الأب الخالد" كما يحب أن يسمي نفسه. والتي تأتي في مقدمتها تأكيد سلطته على الناس الذي يدعي حكمه لهم، من حيث كونها سلطة أبدية، غير قابلة للزوال لا اليوم ولا الغد، لذا لا داعي للتفكير بتحديها، وإلا تعرض صاحبها لعقاب ماحق لا يتصوره عقل. كما تأكيده على تعاليه على من يحكمهم أو حتى على من يساعده في الحكم، من حيث هو من طبيعة تختلف عن طبيعتهم، التي تشبه الطبيعة الإلهية في قدرتها على الخلق وتقدير المصائر. أما ثالث هذه الرسائل فهي رغبته الدفينة في الاستحواذ على الصفات الإلهية القائمة على الخلق من الفم، والتي تنقل أوامره الشفوية من حيّز الرغبة إلى حيّز الفعل.
في مشهد احتفالية ترميم تمثال الأسد في حمص، يتلطى الموالون خلف الهوس بإعادة الإعمار، فيما هم بالحقيقية يحتفلون بعودة أحد رموز السلطة إلى الحياة
شكّل عام 2011 أول تحدٍّ حقيقي لقياس مدى فاعلية الرموز التي استثمرت بها السلطة الأسدية لمدة تزيد عن الأربعين عامًا لغرض حماية زعماء وأنصار جمهورية الخوف ودولة الرعب الأسدية، التي عجزت لأول مرة عن ردع المتظاهرين من تحدي سلطة دولة العنف المعمم، الذين أصروا على مواجهة السلطة في الملعب الذي تفضّل اللعب فيه، ألا وهو ملعب الرموز والدلالات. فعمدوا إلى شتم الذات الرئاسية لمؤسس الدولة الأول، في ممارسة شعائرية توحي بإرساله إلى غياهب الجحيم، الذي طالما أذاقهم منه، ثم عمدوا إلى تمزيق صورة الأخ الأكبر، الذي كان يحصي عليهم كل صغيرة وكبيرة، ويقوم بإرسال كل متمرد منهم على سلطته إلى زنازين فروعه الأمنية، وفي مغامرة كبرى، تصل لحد الجنون، حطموا أول تماثيل القائد الملهم في مدينة درعا، في إشارة منهم لسلبه علامات الألوهية، التي كانت تحرس حدود دولته الخالدة.
اقرأ/ي أيضًا: "لا" لحافظ الأسد.. لا للطعنة الأعمق في ظهر البلاد
في مشهد احتفالية ترميم تمثال الأسد في حمص، يتلطى الموالون خلف الهوس بإعادة الإعمار، فيما هم بالحقيقية يحتفلون بعودة أحد رموز السلطة إلى الحياة، علّه يعيد الذين خرجوا على سلطته إلى بيت الطاعة الأسدية، المعادل الموضوعي لهدر الكرامة الإنسانية، دون أن يعوا الشروخ العميقة التي أحدثها السوريون في صورة السلطة الأسدية المقدسة والعنيفة، المقنعة خلف ستار الأبوة الرحيمة، التي تحتاج سنوات طويلة من القمع لاستعادة فعاليتها وإعلان انتصارها من جديد.
هل هذا يا ترى ما حاول الأسد الابن فعله، عبر إصراره على التماهي مع صورة الجندي في أنفاق جوبر الفنية، حيث يقوم القائد بشعيرة رفع علم النصر، بعد أن نكّل بأعدائه الآبقين، الأمر الذي لا يمكن فهمه إلا باعتباره تسويقًا لنفسه كمنتصر أو متغلب جديد على الشعب السوري على طريقة الوالد البائدة؟
اقرأ/ي أيضًا: