يفتتح الكاتب بلقاسم مغزوشن روايته ''المحروسة لا تشبه غرناطة'' (دار القدس العربي، وهران 2016) بمشهد بانورامي متميز، فيصور لنا المدينة بأدق تفاصيلها، ويعرض لنا الحياة الاجتماعية والثقافية السائدة في القرن السادس عشر. تقسم الرواية زمنيًا إلى نصفين: ''ما قبل الحرب'' و''أثناء الحرب وانهزام العدو''. لكن الشطر الأول هو الأهم، لأنه يأخذ حيزًا مهمًّا من الأحداث التي سبقت المعركة والتي تشرح وضعية السكان الأصليين والعثمانيين وردة فعلهم إزاء الغزو.
تناولت رواية "المحروسة لا تشبه غرناطة" حقبة تاريخية لم تتناولها الكثير من الروايات
أحداث الرواية كلها تدور في إيالة القصبة المطلة على البحر الأبيض المتوسط، التي تنتظر هجوم العدو الذي لبد ينتظر هدوء البحر لكي يلج من إحدى نقاط الرسو.
اقرأ/ي أيضًا: "جاز" مارسيل بانيول.. ملحق عن خيبة الأمل
رواية ''المحروسة لا تشبه غرناطة'' للكاتب بلقاسم مغزوشن لا تشبه مثيلاتها من الروايات لأنها خُصّصت لحقبة تاريخية لم تتناولها الكثير من الروايات، فقد تفننت كتب التاريخ في ذكر تلك المعركة الشهيرة في القرن السادس عشر، بالضبط في تشرين الأول/أكتوبر سنة 1541. الجديد الذي أتى به الروائي في عمله السردي هو أنه حاول سد الفراغ الذي لم يتناوله المؤرخون في كتاباتهم، أي الأحداث التي وقعت قبل المعركة بأيام طويلة. تعد هذه الفترة منعرجًا حاسمًا في تاريخ البحر الأبيض المتوسط عامة، وتاريخ الجزائر خاصة. لما فيه من اضطرابات سياسية واجتماعية نشبت بين القطبين العثماني والإسباني، إذ كانت إسبانيا في تلك الحقبة في أوج ازدهارها وقد امتدت أراضيها إلى ما وراء البحار والمحيطات.
النهاية هي أهم حدث في رواية بلقاسم مغزوشن، وهي سبب كل الأحداث التي تسبقها، أي قبل وقوع المعركة الشهيرة بين جيش شارلكان الجبار وأسطوله الهائل من القوادس، أمام أسطول حسن آغا العبد المملوك لبربروخا (أميرال سليمان القانوني). وقبل أن يتواجه الجيشان في معركة طاحنة تنطلق التجهيزات من كلا الطرفين من أجل الإعداد للحرب.
يبين لنا الروائي بلقاسم مغزوشن في البداية، الحياة الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة في ذلك العصر. فتوفر العنصر اليهودي والموريسكي في الشمال الأفريقي كان له تأثير بالغ على تكوين ذهنية معينة لمواجهة الغزو بمناعة قوية وتضامن، رغم كل الفوارق التي وضعها العرب أو الأتراك على النازحين منذ قرن ونيف بعد سقوط آخر ملوك غرناطة. هذا التنوع والاختلاف في الأعراق خلق نوعًا من التمييز العنصري ضد اليهود الذين اعتبرو بدرجة أقل من العرب، أما ما يثير السؤال حقًّا فهو: لماذا يحكم الأتراك بما أنهم جاؤوا كمساعدين ومنقذين فقط؟ لكن هذا السؤال لا يني يزداد إلحاحًا بعد أن نعلم أن حسن آغا ليس عثمانيًا إنما عبدًا مملوكًا لبربروخا، الذي اختطفه هذا الأخير منذ عقود من جزيرة سردينيا، ثم قام بإخصائه وبعد أن اشتد عوده وتأسلم قام بتولي خلافة بربروخا الذي استدعاه الملك سليمان القانوني. فكيف يحق لعبد مملوك أن يتبوأ هذه السلطة ولا نجد شخصية مرموقة من السكان الأصليين في مثل هذا الموقع المهم؟ حيث لا يجب أن ننسى أن ذلك العصر شهد خليطًا من الأجناس بما فيهم السكان الأصليون (الأمازيغ).فلماذا فضل الأتراك تسليم مقاليد الحكم للأجانب؟ هناك كثير من الأسئلة التي تطرح نفسها في الرواية كمسألة القرصنة والاغتيالات التي امتهنها العثمانيون في حق سكان الجزر والقرى المطلة على البحر الأبيض المتوسط. هذه الإزعاجات كانت من بين الأسباب التي جعلت الدول الأوروبية تتكالب للسيطرة على الساحل الأفريقي.
تتوالى أحداث الرواية لنجد أنفسنا في قلب الحدث، حينما يكشف لنا الروائي بلقاسم مغزوشن عن حجم الخطر الذي يحيق بمدينة القصبة العريقة. مستعملًا وصفًا دقيقًا ومكثفًا للجيش الانكشاري وطريقة معاملة العثمانيين للأسرى، ونظام الجواري وتقسيم الطبقات، والقبائل المجاورة التي تحالفت من أجل الإطاحة بأسطول شاركان.
يستعرض الكاتب بلقاسم مغزوشن خلال الرواية مجموعة من اللوحات الفنية التي تعبر عما سبق المعركة متحدثًا عن قادس شارلكمان بعناية تفوق الوصف، تقارب الإطناب أحيانًا. ومتفننًا في ذكر أسماء الشخصيات والمعالم التي كانت بالفعل متواجدة في الموقعة الشهيرة. تستمر التحضيرات للمعركة الحاسمة، ويتفشى القلق في كلا المعسكرين بعد مرور أيام على وصول الأسطول العظيم، وذلك بسبب صعوبة إنزال جيش شالكان على اليابسة، بسبب عامل طبيعي سيحسم المعركة في الآخر لصالح جيش حسن آغا.
لا يجب أن ننسى أن الحملة شنت في تشرين الأول/أكتوبر شهر التقلبات الجوية التي عصفت بأغلب سفن الأسطول، التي شبهها الكاتب بغابة من الألواح لكثرة عددها. عندما يتمكن الغزاة من الرسو على أرض صلبة تستيقظ عاصفة هوجاء وتمطر السماء مدرارًا فتتجمد جيوش العدو ويصبح القتال أمرًا صعبًا في تلك الظروف القاسية.
نجح بلقاسم مغزوشن في سد الثغرات التي لم تتحدث عنها كتب التاريخ
هذه اللوحة الثانية، برأيي، ثاني أهم محطة في الرواية لأنها تشكل منعطفًا حاسمًا في أحداثها، وتشهد انكسار شوكة شارلكمان الذي سيرجع إلى إسبانيا مهزومًا تاركًا وراءه أسرى وغنائم للعثمانيين، مما سيعزز ثقتهم أكثر لتستمر هيمنتهم على البحر الأبيض المتوسط لقرنين من الزمن.
اقرأ/ي أيضًا: أمجد ناصر في "هنا الوردة".. مساءلة التغيير
إن في طيات رواية "المحروسة لا تشبه غرناطة" أسئلة كثيرة لم يتم الإجابة عنها إلى الآن. وقد نجح الروائي بلقاسم مغزوشن في إعادة إحيائها للفت انتباه القارئ إلى ما طواه النسيان في عتمات التاريخ. قد تكون هذه الرواية إحدى المحاولات الجادة لإخراج الحقيقة إلى النور، أو لسد هذه الثغرات التي لم تتحدث عنها كتب التاريخ، وهنا يمكن للروائي أن يستعمل خياله في خلق مشاهد يمكنها أن تضع احتمالات متعددة لما وقع بالفعل في تلك المعركة.
اقرأ/ي أيضًا:
غير دانتي وأمبرتو إيكو.. 5 كتاب إيطاليين يجدر بك القراءة لهم