اعتاد تلاميذ تونس، خلال السنوات العشر الأخيرة، أن يستهلوا امتحانات البكالوريا/الثانوية العامة بالاحتفالات. أهازيج، هتافات، أغان ولافتات عملاقة، هي خلاصة ما يُعرف بـ"الدخلة"، وهي التي تميز المعاهد التونسية مع انطلاق اختبارات مادة التربية البدنية أو الرياضة، أولى امتحانات البكالوريا التونسية.
تجمع "الدخلة" بين الجانب الفني الجمالي والرسائل التي تكون إما تربوية، أو سياسية اجتماعية في غالب الأحيان
"الدخلة" تجتاح المعاهد التونسية
انطلقت في تونس اختبارات مادة التربية البدنية، في إطار امتحان البكالوريا لسنة 2016، يوم 18 من نيسان/أبريل الجاري وتتواصل إلى الثلاثين من هذا الشهر، وذلك في 251 مركزًا في مختلف المحافظات التونسية وبمشاركة قرابة 130 ألف تلميذ وتلميذة، وتعتبر هذه الاختبارات فاتحة البكالوريا المنتظر إجراؤها في حزيران/يونيو المقبل.
تذكر هذه الاحتفالات بما يقوم به جماهير الملاعب عند دخول اللاعبين في المباريات الرياضية الكبرى، والبعض يعتبرها محاكاة لهذه الاحتفالات. وتجمع "الدخلة" بين الجانب الفني الجمالي والرسائل التي تكون إما تربوية، على علاقة بمشاغل التلاميذ التعليمية، أو سياسية اجتماعية في غالب الأحيان. ويستعد تلاميذ البكالوريا لـ"الدخلة" من خلال اختيار لباس موحد وانتقاء ما يكتب على القمصان وعلى اللافتات المرفوعة بكل عناية. و"الدخلة" محل تنافس بين مختلف الاختصاصات داخل المعهد الواحد ثم هي محل تباه وتنافس بين سائر معاهد التراب التونسي في مرحلة ثانية.
لا تستثني "الدخلة" محافظة أو حيًا، لكنها أكثر بروزًا وبهرجًا في المدن والمناطق الراقية مقارنة بالأرياف والمناطق المهمشة، إذ ينفق التلاميذ مالًا كثيرًا على هذه الاحتفالات عادة. يدخر التلاميذ جزءًا من مصروفهم وقد يطلبون مالًا أكثر من والديهم، وينظمون اجتماعات فيما بينهم لمناقشة مواضيع "الدخلة" واختيار الشعارات التي سيتم إدراجها، وعادة ما يطلبون من أحد المختصين رسمها على اللافتات والقمصان.
اقرأ/ي أيضًا: تلاميذ تونس ينتفضون من جديد
الوضع السياسي يهيمن على "الدخلة" التونسية
صارت "الدخلة" تثير الكثير من الجدل والانتقادات خلال السنتين الأخيرتين لتطور النفس السياسي فيها
تختلف مواضيع "الدخلة" من معهد إلى آخر وداخل المعهد الواحد أحيانًا، لا يتم تنسيقها من قبل وزارة التربية والتعليم التونسية، هي باختصار من فلسفة التلاميذ ووفق ميولاتهم، لكن "الدخلة" صارت تثير الكثير من الجدل والانتقادات خلال السنتين الأخيرتين لتطور النفس السياسي فيها.
بعد الاستعدادات، تُعرض "الدخلة" وسرعان ما تغزو صورها مواقع التواصل الاجتماعي وتبدأ موجة التعليقات، وقد تراوحت هذه السنة وإلى حد الآن بين استحسان ما قيل إنه وعي تلاميذ تونس بمحيطهم الاجتماعي والسياسي ومتابعتهم لما يحصل في العالم، وبين استنكار قصر استيعاب بعضهم للتاريخ السياسي أو استلهام البعض "دخلته" من رموز دكتاتورية.
في أحد المعاهد الثانوية بجزيرة جربة، جنوب شرق تونس، تضمنت إحدى الاحتفاليات رفع علم تضمن شعار النازية، وهو ما أثار استياء البعض ونددت جمعية "أقليات" في بيان لها بالحادثة، كما فتحت وزارة التربية تحقيقًا في الأمر، وتدخل بعض يهود جربة، في وسائل إعلام محلية، مؤكدين استياءهم من اللافتة التي رفعت ومتحدثين عن تأثيرها السلبي على الموسم السياحي بداية الصيف القادم. ومن جانبهم، نفى تلاميذ المعهد، في تصريحات للإعلام المحلي، نيتهم الإساءة لأي طرف، واستنكروا ما اعتبروه تضخيمًا وتأويلًا في غير محله. ويُذكر أن صور هتلر عادة ما تسجل حضورها بكثافة في احتفالات المعاهد التونسية، خلال السنوات الأخيرة.
وفي محافظة جندوبة، تضمنت "دخلة" أحد المعاهد صورة جمعت بين الرئيس العراقي السابق صدام حسين والطفل الكردي اللاجئ إيلان، الذي غرق إثر انقلاب قارب يقله إلى جزيرة كوس اليونانية. وقد تفاعل معها البعض إيجابيًا مستحسنين اهتمام تلاميذ تونس بالقضايا العربية والإقليمية، فيما تأسف آخرون تجاه الخلط الذي حصل، إذ عُرف عن صدام حسين علاقته المتوترة مع الأكراد وما لحقهم من أذى بسببه. الخلط أثار الجدل من جديد حول المستوى الثقافي لشباب الثانويات التونسية وحول مضمون المناهج التعليمية.
وفي تطاوين، أقصى الجنوب الشرقي التونسي، اختار تلاميذ أحد المعاهد صورة كبيرة للصحافيين التونسيين المفقودين في ليبيا منذ أيلول/سبتمبر 2014، سفيان الشورابي ونذير القطاري، في محاولة للتذكير بمعاناة عائلتي الصحفين، وورد على اللافتة عبارة، باللهجة التونسية: "مصرين على رجوعكم سالمين".
اقرأ/ي أيضًا: تونس فلسطينية أيضًا
"الدخلة".. البحث عن الرمز وخلق المفاجأة
في احتفالات "الدخلة" سنتي 2014 و2015، حضرت صور أينشتاين وبيل جيتس وتشي جيفارا. اهتم بعض التلاميذ بمشاكل جهتهم إذ عبر تلاميذ، في محافظة قابس مثلًا، وهي محافظة تشتكي من التلوث، عبر "الدخلة"، عن احتجاجهم على الوضع البيئي والصحي في مدينتهم، وحملت بعض الاحتفالات رسائل ذات وعي بقضايا الأمة العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
ولكن، أيضًا، تضمنت بعض الاحتفالات صورًا ذات علاقة بما يعرف بـ"تنظيم الدولة الإسلامية" وصورًا لهتلر وبن لادن وإيحاءات جنسية وعبارات حادة تنتقد الأساتذة والإطار التعليمي بصفة عامة، ما استدعى أن يؤكد وزير التربية والتعليم هذه السنة أن "الاحتفالات لن تمنع لكنها ستكون مؤطرة من الطاقم التربوي وستكون في إطار القانون وحسب ما يليق بعراقة المؤسسات التعليمية التونسية".
ويُلاحظ، في "الدخلة"، تركيز التلاميذ على زعامات ورموز معينة وتكرار بعضها في عدة مناسبات، وهو ما فسره البعض بالميل إلى تأليه بعض الشخصيات، بينما يرى البعض الآخر أن الشباب في حاجة إلى رموز من التاريخ التونسي والعربي، يتمسكون بها وإن مارست الدكتاتورية في جزء من حياتها. يتضح من خلال "الدخلة" أيضًا، مدى الرغبة في جلب الانتباه والتفرد والخروج عن المألوف، في شكل احتفالي يذكر باحتفالات "الألتراس".
"دخلة الباك سبور" كما يطلق عليها في تونس، هي بداية قطع الصلة بالمدرسة وما تعنيه من تحكم وصرامة، يرفضها البعض لما يرافقها من عنف أو مشاهد غير محبذة ويطالبون بتفعيل الرقابة بشأنها لكنها ترسخت تقريبًا كتقليد تونسي خلال العشرية الأخيرة. يتمسك التلاميذ بها كمظهر احتفالي يحتاجونه قبل بداية الأمور الجدية وانطلاق الامتحانات الأساسية وما يرافقها من ضغط وتوتر.
اقرأ/ي أيضًا: