في تونس، تعود إلى الواجهة من جديد قضايا محاكمة مدنيين أمام محكمة عسكرية، وهي قضايا طالما أسالت الكثير من الحبر قبل الثورة أو خلال السنوات الخمس الأخيرة. يوم السابع عشر من كانون الأول/ديسمبر الجاري، والذي يتزامن مع الذكرى الخامسة لانطلاق الثورة، يمثل المحاميان عبد الرؤوف العيادي ونجاة العبيدي أمام قاضي التحقيق العسكري بتهمة "هضم جانب موظف عمومي"، وهي تعني التعدي على موظف عمومي. وجهت النيابة العامة العسكرية التهمة ضدّهما على خلفية مرافعة المحاميين المذكورين عن ضحايا التعذيب في ما يعرف بقضية "براكة الساحل".
تعددت دعوات الحقوقيين في تونس إلى أن تصبح المحكمة العسكرية محكمة مختصة في القضايا العسكرية ولا تحاكم المدنيين
وعبد الرؤوف العيادي، هو رئيس حركة وفاء، التي انشقت عن حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، (معارضة). هو سياسي تونسي عمل محاميًا لدى محكمة التعقيب بتونس، واشتهر بنضاله ضد نظام بن علي وبمعارضته للسلطة الحاكمة الآن والترويكا من قبلها. أما نجاة العبيدي فهي أيضًا محامية وتعرف بنشاطها الحقوقي قبل سنوات.
العيادي: اعتداء على حقوق الدفاع وخروقات قانونية
يقول عبد الرؤوف العيادي، في مذكرة وجهها للإعلام: "اتصل بي ٲحد المتضررين من ٲعمال التعذيب الوحشي التي مورست بفرقة ٲمن الدولة ضد العديد من الضباط السامين بالجيش الوطني سنة 1991 فيما عرف بمجموعة "براكة الساحل"، ليطلب مني نيابته في القضية المنشورة لدى المحكمة العسكرية عدد 6409، بعد ٲن عبر لي عن خشيته من ضياع حقوقه بالنظر إلى ما لاحظه من تواطؤ المحكمة مع المتهم الذي هو مدير ٲمن دولة سابقًا".
يضيف العيادي: "رفضت رئاسة المحكمة في البداية نيابتي وهو ما أعتبره عملًا غير قانوني ومخالفة صريحة لأحكام الفصل 38 من مجلة الإجراءات الجزائية ورغم تراجع المحكمة فيما بعد إلا أنها رفضت تمكيني من الاطلاع على ملف القضية".
اعتبرا -العيادي والعبيدي- ما بدر عن رئاسة المحكمة العسكرية في هذه القضية "إنكارًا لدور الدفاع وخرقًا واضحًا لقانون المحاماة وللفصل 105 من الدستور"، كما جاء في مذكرة العيادي، الذي أضاف أن "طالما تم استبعاد المحامي من الملف ومنع القيام بالحق الشخصي فإن المحكمة تكون بذلك قد بيتت حرمان المتضررين من الطعن في الحكم الذي ستصدره".
وتعددت دعوات الحقوقيين وجزء من الشارع التونسي، منذ فترة، إلى أن تصبح المحكمة العسكرية محكمة مختصة في القضايا العسكرية ولا تحاكم المدنيين. كان الدستور التونسي قد نص في فصله 110 على استصدار قانون في هذا الإطار لكن هذا القانون لم يصدر بعد ويشكك البعض في إمكانية إصداره.
أما قضية "براكة الساحل" فتعود إلى شهر أيار/مايو 1991، حيث تم اعتقال عدد من الضباط السامين والعسكريين ووجهت لهم تهمة التآمر على أمن الدولة والتخطيط لعملية انقلابية. وتعرض المعتقلون، الذين ثبتت براءتهم فيما بعد، إلى تعذيب، يصفه العيادي ومحامو فريق الدفاع، بالخطير، والمتهم في القضية هو مدير سابق لأمن الدولة يدعى عز الدين جنيح وهو محكوم بخمس سنوات ونصف سجنًا غيابيًا.
تسبب التعذيب الذي تعرض له ضباط قضية "براكة الساحل" في قتل أحدهم وهو عبد العزيز المحواشي كما أدى إلى إعاقات جسدية لضباط سامين تجاوزت خطورتها الخمسين في المائة.
العيادي: من جريمة تعذيب إلى جنحة بسيطة!
وصف عبد الرؤوف العيادي تعامل المحكمة العسكرية مع قضية "براكة الساحل" "بالتعامل السياسي وغير القانوني". وأوضح في مذكرته: "تم تكييف ٲعمال التعذيب المنسوبة إلى المتهم وهو مدير ٲمن الدولة السابق عز الدين جنيح.. على ٲنها جريمة عنف شديد أي أنها مجرد جنحة حسب أحكام الفصل 101 من المجلة الجنائية".
وصف عبد الرؤوف العيادي تعامل المحكمة العسكرية مع قضية "براكة الساحل" "بالتعامل السياسي وغير القانوني"
وقد سبق للمحكمة العسكرية أن رفضت طلب العرض على الاختبار الطبي الذي تقدم به نائبا المتضررين. ويرى العيادي أن ذلك كان "خشية من أن يتغير التكييف القانوني للقضية وتصبح جناية حسب أحكام الفصل 119 جزائي، إذا ما تجاوزت نسبة الضرر البدني جراء العنف الشديد عشرين في المائة".
مثقفون وسياسيون يساندون ويستنكرون
إثر الإعلان عن إحالة العيادي والعبيدي أمام القضاء العسكري، أصدرت بعض الأحزاب بيانات تستنكر ذلك وساندهما عدد من الفاعلين في المشهد التونسي كالرئيس السابق محمد المنصف المرزوقي، والقيادي بالحزب الجمهوري عصام الشابي، وأمين عام حزب التحالف الديمقراطي محمد الحامدي والقيادي بحزب التكتل خليل الزاوية وغيرهم. وسينوب عن العيادي والعبيدي أسماء حقوقية معروفة في تونس كالمحامية والحقوقية راضية النصراوي وعبد الناصر العويني. واعتبر أصدقاء المحامين المحاكمة "استهدافًا للمحاماة وللمناضلين وللثوار".
وطالبت الهيئة الوطنية للمحامين القضاء العسكري بـ"ضرورة احترام القانون والفصل 47 من المرسوم المنظم لمهنة المحاماة وضمان ممارسة حق الدفاع لكل الأطراف" وجددت "رفضها لإحالة المحامي بسبب مضمون مرافعته والإشكاليات التي تنجر عن الاختلاف مع هيئة المحكمة" واعتبرت أن ذلك مخالف للقانون، حسب بيان الهيئة.
تم اختيار يوم السابع عشر من هذا الشهر لإجراء التحقيق أمام المحكمة العسكرية، وهو يوم يرمز إلى تاريخ السابع عشر من كانون الأول/ديسمبر 2010، تاريخ انطلاق الثورة التونسية. يرى البعض أن لموعد المحاكمة رمزية ودلالات خاصة وأن عبد الرؤوف العيادي من أبرز الداعمين للثورة في تونس، وكذلك الحال بالنسبة للحقوقية نجاة العبيدي. كما اعتبروه تحديًا لمشاعر كل من شارك في الثورة ومن انخرط فيها. عن التاريخ، قال العيادي لوسائل إعلام محلية: "اختيار التاريخ ليس صدفة بل تصفية حساب ومنذ رافعت في قضايا شهداء وجرحى الثورة توقعت أن تتم تصفية الحساب معي يومًا ما وهو ما يعني عودة ممارسات المنظومة القديمة".
اقرأ/ي أيضًا: