يبدو أن ريادة تونس في مجال مكافحة الاتجار بالبشر والذي انطلق بتمثلها كأول بلد عربي ومسلم يلغي العبودية سنة 1846، قبل حتى الولايات المتحدة، ما زالت مستمرة في الزمن المعاصر، بإصدار قانون خاص لمنع الاتجار بالبشر، بل وإنشاء هيئة مختصة لمكافحة هذه الظاهرة، من النادر وجودها في العالم العربي.
أصدرت تونس قانونًا لمنع الاتجار بالبشر، وأسست هيئة لمكافحة هذه الظاهرة، تأكيدًا لريادتها العربية والعالمية في هذا المجال
وخلال الأيام المنقضية، وبمناسبة الذكرى الـ172 لإصدار أحمد باي أمرًا إلغاء الرق، والتي باتت مناسبة يُلقى عليها الضوء أكثر فأكثر في تونس خلال السنوات الأخيرة؛ دشنت الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص، مقرها لممارسة أعمالها، وذلك بعد نحو سنة من تعيين أعضائها وفي مقدمتهم رئيستها القاضية روضة العبيدي والتي ترأست سابقًا نقابة القضاة التونسيين.
اقرأ/ي أيضًا: بعد فضيحة ليبيا.. 6 دول أخرى تستشري فيها العبودية!
ويتبادر السؤال في ذهن عديد المتابعين حول مدى أهمية وجود قانون خاص لمكافحة الاتجار بالبشر، وهل يوجد اليوم أساسًا رق وعبودية لمكافحتهما؟
مكافحة العبودية الحديثة
لا تقتصر العبودية على أشكالها القديمة التي تجاوزها الزمن، بل تتخذ اليوم أشكالًا حديثة، تأخذ تسميات متعددة يمكن اختزالها فيما بات يسمّى بـ"العبودية الحديثة"، حيث لم يكن من قبيل الصدفة أن ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته الرابعة، بأنه "لا يجوز استرقاقُ أحد أو استعبادُه، ويُحظر الرق والاتجار بالرقيق بجميع صورهما"، وتؤكد المواثيق الدولية على منع العديد من أشكال الرق ومنها العمل الإجباري والاستغلال الجنسي التجاري.
في نفس الإطار، جرّم قانون منع الاتجار بالأشخاص في تونس، العديد من الصور الحديثة للعبودية، ومنها السخرة، وهي الخدمة القسرية بفرض عمل على الشخص بالتهديد دون رغبته، وكذلك الاسترقاق بما هو أي وضع تمارس فيه على الشخص السلطات الناجمة عن حق الملكية كلها أو بعضها. ونص القانون أيضًا على تجريم العديد من الأشكال الشبيهة بالرق، مثل "القنانة"، ومعناها إلزام شخص بالعمل في أرض شخص، أو تقديم خدمات له دون تمتع العامل بحرية تغيير وضعه، وكذلك إكراه المرأة على الزواج، بالإضافة للاستغلال الاقتصادي والجنسي للأطفال.
وأفرد القانون عدة فصول لردع مرتكبي مختلف أشكال الاتجار بالأشخاص، تصل عقوبتها لـ15 سنة، وعقوبات أكثر شدة على ممارسة هذه الجرائم في شكل مجموعات. كما يزجر القانون حتى الشخص الذي بلغ إلى علمه معلومات حول وجود ارتكاب الجرائم، وامتنع عن إعلام السلطات المختصة، وتشمل العقوبة بما في ذلك الخاضع للسر المهني.
لا تقتصر العبودية على أشكالها القديمة التي تجاوزها الزمن بل تتخذ أشكالًا جديدة بمسميات عدة يمكن اختزالها في "العبودية الحديثة"
ويلزم القانون بطرد الأجنبي مرتكب أي جريمة للاتجار بالأشخاص في تونس، وذلك بعد قضائه لعقوبته. ونظرًا لخطورة مثل هذا النوع من الجرائم، أباح القانون اختراق عون أمن أو مخبر، للمجموعة المشتبه في ممارستها عمليات متاجرة بالأشخاص، بالإضافة للمراقبة البصرية والسمعية السرية، واعتراض الاتصالات، ولكن تحت رقابة القضاء، ولمدة زمنية محدودة، وذلك في إطار الملائمة بين ضروريات البحث من جهة وحماية حقوق الأفراد من جهة أخرى.
اقرأ/ي أيضًا: العبودية الحديثة.. تجدد الدماء في عروق أسواق النخاسة الإماراتية
ويلزم القانون، بتوفير التدابير الضامنة للحماية الجسدية والنفسية للضحايا والشهود والمخترقين والمبلغين. وتسعى تونس عبر هذه الترسانة من الفصول القانونية، التي تجمع بين الردع وآليات الحماية، المساعدة على مواجهة الجرائم الخطيرة للاتجار بالأشخاص التي تتميز غالبا بطابع الدولي.
تحديات لمنع الاتجار بالأشخاص
أنشأ القانون هيئة مختصة لمكافحة الاتجار بالأشخاص، مهمتها صياغة إستراتيجية وطنية لمكافحة هذه الجريمة، وتلقي الإشعارات، وتنسيق المجهودات في هذا المجال. وتتركب هذه الهيئة من 16 شخصًا غالبيتهم العظمى من ممثلي الوزارات، لتكون هيئة حكومية، وهذا ما يكشف عن التحديات التي تواجهها للقيام بمهامها بالنجاعة المطلوبة، وذلك دون الارتباط بالإرادة السياسية التي تعبر عنها الحكومة.
بيد أن التحدي الأكبر يتمثل في قدرتها على مواجهة جرائم غالبًا ما تكون عابرة للوطن، تكتسي بصبغة دولية، ضمن عصابات منظمة تحترف أشكال عديدة للاتجار بالبشر. وفي هذا الجانب، تمثل مكافحة الهجرة غير النظامية بما هي أهم مظاهر الاتجار بالأشخاص، تحديًا جديًا، خاصة في ظل ارتفاع وتيرة هذا الصنف من الهجرة في السنوات الأخيرة، وخاصة مع انفلات الوضع الأمني في الجارة ليبيا، التي كشفت تقارير أنها باتت تمثل منصة للأفارقة للهجرة غير النظامية ومحطة لنشاط العصابات العابرة للدول للمتاجرة بالبشر بين أفريقيا وأوروبا.
وفي الأثناء، أعلنت هيئة مكافحة الاتجار بالأشخاص تلقيها 50 إشعارًا خلال سنة 2017، تتعلق بمختلف أشكال الاتجار عدا بيع الأعضاء البشرية، غير أن ذلك لا يعني عدم وجود هذه الجريمة التي عادة ما ترتكبها عصابات منظمة بقدرات عالية، تجيد إخفاء آثار جريمتها، وهو ما يستلزم اليقظة الدائمة للأجهزة الأمنية المختصة.
وتمثل العمالة القسرية تحديًا حقيقيًا، لأنها أحد أكثر أشكال الاتجار بالبشر انتشارًا، بل الأكثر قبولًا مجتمعيًا. والحديث بالخصوص على الاستغلال الاقتصادي للأطفال، وإجبارهم على العمل، خاصة في المنازل من قبل آبائهم، وهذه ظاهرة تنتشر في تونس، خصوصًا استقطاب الفتيات دون سن التمييز من المناطق الداخلية للعمل في العاصمة لحساب العائلات الراقية مقابل مبالغ مالية زهيدة.
وقد بدأت هذه الظاهرة تشهد تقلصًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة بفضل الردع القانوني، ليس فقط عبر قانون منع الاتجار بالبشر، بل كذلك عبر قانون القضاء على العنف ضد المرأة الصادر في الصيف الماضي في تونس، والذي خصص فصولًا لمكافحة العنف الاقتصادي الموجه ضد المرأة عمومًا، والمرأة العاملة خصوصًا، حيث يعاقب القانون مثلًا بالسجن لمدة تصل لستة أشهر لكل من يتعمد تشغيل الأطفال في المنازل ولو بصفة غير مباشرة.
الجهود التونسية المتزايدة في مكافحة الاتجار بالبشر، جعلتها تحتل المركز الثاني عالميًا في هذا المجال
ويبدو أن هذه المجهودات التونسية في السنوات الأخيرة لمكافحة الاتجار بالبشر جعل البلاد تحتل المستوى الثاني في الترتيب العالمي للبلدان لمكافحة الاتجار بالأشخاص.
اقرأ/ي أيضًا: