خمس سنوات مرّت سريعًا منذ اندلاع شرارة ''الربيع العربي''، إن كان يصح نعته بالربيع بعد كل الذي حصل من متغيّرات من قطر عربي إلى آخر، ربّما لم نشعر بها لكثافة الأحداث، ولكن ذكراه وأحداثه ورموزه ظلّت راسخة في مخيّلة من عايشوا تلك الأيّام، التي انفجر فيها الشباب في وجه أنظمة الاستبداد.
لم يكن لشباب الثورة عند اندلاعها أي طرح سياسي أو تصور دقيق للمرحلة القادمة في تونس لذلك لجؤوا إلى الأحزاب السياسية
يومها لم يكن لهؤلاء الشباب أي طرح سياسي ''منمّق'' يعبّر عن أيديولوجيا واضحة أو خط سياسي مميز، ولم يكن لهم تصوّر دقيق للمرحلة القادمة، كما لم يعدّوا برنامجًا للحكم ولا نصوصًا تعديليّة لدساتير دولهم ولا حلولًا لأزمات الفقر والأميّة والبطالة، لذلك لجأت هذه الطليعة الشبابيّة المندفعة إلى الأحزاب السياسيّة التقليديّة أو المشكّلة حديثًا إثر الثورة ليوكلوا لها مطالبهم وأحلامهم وشعاراتهم، التي صدحوا بها لأيام وليال وسط ساحات الثورة.
ولكن ما حصل لم يكن متوقعًا من الشباب التونسي وخاصّة أولئك الذين قرّروا الانخراط في أحد الأحزاب السّياسية أو مساندتها، فسريعًا ما نشبت خلافات وصراعات حادة بين ''سلطة"' جديدة و"معارضة" جديدة، حول جملة من القضايا التي لم تكن البتّة من بين القضايا المطروحة من الشباب الثائر.
غرق البعض في صراعات ثقافيّة ''هوويّة"، لا علاقة لها بالثورة أو استحقاقاتها، وكان مستعدًّا ليفني العالم من أجل تحقيقها، وخلد البعض الآخر إلى حزبه وفصيله وجماعته، متبنّيًا خطًا سياسيًا براغماتيًا، تتحدّد خطوطه وفق المصالح العائدة له، هذا الخط يقبل التبرير لأي ممارسة، وهو ما كان ملائمًا لعودة رموز النظام السّابق واختراقهم للمشهد السّياسي، بل بلغوا حد تصدّرهم المشهد في دور المنقذ والمدافع الشّرس عن الدّولة والاستقرار والتنمية العادلة.
هذا المشهد أنتج حالة من اليأس واللامبالاة، توسّعت دائرتها بشكل سريع لتضم فئة واسعة من الشباب، منهم من قرّر الانسحاب من الممارسة السّياسيّة الحزبية، والبعض الآخر، قاطع الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة الفارطة في تونس، وفي أفضل الأحوال انتقل بعضهم للنقد والسخرية من الطبقة السياسية وصار يعوّل على الاحتجاج الاجتماعي المطلبي، كالاحتجاجات التي حصلت في شهر يناير/كانون الثاني الفارط، في أكثر من مدينة تونسيّة للمطالبة بالتّشغيل والتنمية.
إبان الثورة، كنا أمام مشهدين. مشهد الشباب التونسي من تلاميذ وطلبة وعمّال ومعطّلين عن العمل ملتفّين حول شعارات الثورة، متحدين حول هدف إسقاط النّظام والسير نحو القطع معه عبر انتخاب مجلس تأسيسي وسنّ دستور جديد وكان هذا سقف التحرّكات من 17 كانون الأول/ديسمبر 2010 إلى اعتصامي القصبة1 و2. هذه الطليعة الشبابيّة جمعت بينها جملة من الاختلافات الفكريّة والسّياسية والتنظيميّة، ولكن جمعها حب الوطن أيضًا، ورغبة أكيدة وتصميم واثق في تحقيق الخير للشعب الصابر المضطهد طيلة عقود.
ومشهد سياسيين، معظمهم من مواليد أوائل القرن العشرين، قد تصدّروا المشهد السياسي العام مباشرة إثر الأيام الأولى للثورة، اتجهوا بشكل سريع إلى خلق صراعات متعدّدة واندفع جلّهم نحو التنافس الانتخابي المبكّر والمحموم. تلت تلك الانتخابات سنة 2011 أزمات سياسيّة متتالية، منها فشل في الحكم وفشل في المعارضة كذلك، وتمكّن رموز النظام القديم من لعب دور المعارضة، ومن ثمّ الفوز بالانتخابات الموالية سنة 2014 وتصدّر المشهد من جديد.
هذا المشهد الجديد يحيل الديمقراطيّة في تونس إلى اختبار جدي، فإمّا أن يضمن استمرارها أو يؤدي إلى انتكاستها وتحوّلها إلى مجرّد شعار أجوف. ففي حال استمرار حالة العزوف واللامبالاة من فئة الشباب بالشأن العام وعدم مشاركتهم في الاستحقاقات الانتخابيّة ترشّحًا وانتخابًا، تفقد العمليّة الانتخابيّة معناها، وأي سلطة ستفرز عنها ستكون ذات شرعيّة منقوصة وغير معبّرة حقيقة عن واقع الشعب.
كما أن فقدان الثقة في العمليّة السياسيّة سيحوّل الأحزاب إلى مجرّد لافتات لطوائف سياسيّة يقودها بارونات المال والسّياسة أو "الزعماء الروحيون لطوائفهم". وهذا يقتل الديمقراطيّة داخل الأحزاب ويجعل الارتقاء في السلّم القيادي عبر الولاءات والترضيات والتداول على القيادة مجرّد عمليّة توريث.
نحن أمام فرصة ملائمة لكل الطليعة الشبابية، من أجل عزل كل الأصوات المتطرفة والتوافق حول برنامج سياسي يترجم شعارات الحرية والكرامة والعدالة
قد يعوّل جزء من الطبقة السياسيّة على هذا السيناريو للحفاظ على موقعه السّياسي، لكن هذا ما لن يقبله الجيل الجديد الذي نشأ في ظل حالة من الانفتاح السّياسي ومارس حرّية التفكير والتعبير والتجمع والاحتجاج، وهنا نضرب مثلاً بسيطًا أن الانتخابات التشريعية القادمة سنة 2019، سيشارك في التصويت شباب كان يبلغ من العمر أثناء اندلاع الثورة 10 سنوات فقط، أي أنّه واقعيًا لم يعايش نظامًا استبداديًا من قبل وهو متطلع إلى الديمقراطية. ستجمع الأيّام والأشهر القادمة، هؤلاء الشّباب الذين صنعوا الربيع ولم يجدوا الفرصة حينها لتصدّر المشهد أو الإقدام على خوض غمار السّياسة بشكل مباشر والتنافس على السلطة عبر تحويل شعارات الثّورة إلى برامج اقتصاديّة واجتماعيّة.
الآن نحن أمام فرصة ملائمة لكل الطليعة الشبابيّة، من أجل التجمّع حول المتفق عليه وعزل كلّ الأصوات المتطرّفة من جهة والمستجلبة لقضايا وهميّة لا علاقة لها بواقع البلاد ومستقبله من جهة أخرى. تتوافق هذه الطّليعة لوضع برنامج سياسي يترجم شعارات الحريّة والكرامة والعدالة الاجتماعيّة، وتستعد لتحمّل مسؤولّياتها، مع احترام الأجيال السابقة ورجالاتها ونضالاتهم وخبراتهم، إلاّ أن لكلّ زمن رجاله. سيلتفت بعض الشباب بحثًا عن هذه الطليعة الشبابية من حوله، لا تلتفت، ربّما تكون أنت الطليعة وعليك فقط أن تبادر.
اقرأ/ي أيضًا: