"لو أستطيع أن أبكي من الرعب في منزل منعزل
لو أستطيع أن أنزع عينيّ وأكلّمهما
لفعلته من أجل صوتك البرتقالي الحزين
ومن أجل شعرك الذي يتدفق صارخًا".
هكذا أنشد نيرودا راثيًا رفيقه في الفكرة والشعر فيديريكو غارسيا لوركا، العظيم الذي رثى بدور الحرية في وجه السواد الفاشي قائلًا:
"ما الإنسان دون حرية؟ يا ماريانا!
قولي لي.. كيف أستطيع أن أحبك إذا لم أكن حرًّا؟
كيف أحبك قلبي إذا لم يكن ملكي؟".
بدأت صداقة نيرودا ولوركا في العشرينيات من القرن الماضي، عندما التقيا في بوينس آيرس شاعرين، الأول قنصلًا لبلده في الأرجنتين، والآخر مقاومًا جمهوريًا من وراء البحار العالية، وتوطّدت أكثر مع اتفاق الرؤى بينهما، والتوجهات السياسة التي كان عنوانها العريض: اليسار.
بدأت صداقة نيرودا ولوركا في العشرينيات من القرن الماضي، عندما التقيا في بوينس آيرس
في التحام الشعر بالجماهير تتسلسل المراثي، وتتوالى، لتكون بذلك رسالة يسلمها رفيق لرفيقه، وسلاحا يحمل الأخ عن أخيه في الحرب والكلمة: لوركا ونيرودا ومحمود درويش.
رحل لوركا رميًا بالرصاص في ساحات غرناطة، ورحل نيرودا مسممًا في غرفة على هامش سنتياغو المدينة، أما درويش فأكمل الرحلة وحيدا يكتب مراثيه، إلى أن أسند رأسه إلى تراب فلسطين التي كان يتغنى بها.
اقرأ/ي أيضًا: بيثنتي اليكساندري.. الناجي في ذكرى رحيله
عائدون إلى القصيدة، قصيدة الحرية يقصد محمود، ونيرودا يتسلق قيثاره نحو السماء سماء المطلق، إذ يكون فيها نيرودا ذات نفسه قصيدة، قصيدة رثاء من جنس صاحبها، وبلغة لم يتقنها من قبل نعي من طرف الشاعر العربي.
ظلت قصيدة "ذاهبون إلى القصيدة" قطعة رثائية حزينة متخفية عن العيان، وهي الوصل الأساسي بين الثلاثي، درويش، نيرودا ولوركا، وأزمنة الشعر في وقت الثورة. إذ لم تنشر في أي ديوان للشاعر الفلسطيني من قبل، وقليل من يعلمون أصلًا بوجودها.
في السطور التي ستلي نستعرض هذه اللوحة المفقودة من شعر محمود درويش، مسترجعين روح نيرودا إلى الحياة في ذكرى وفاته الخامسة والأربعين.
أرض القصيدة: قيثار
مات نيرودا في 23 كانون الأول/سبتمبر من سنة 1973، وانتظر درويش إلى حدود 1975 ليرثي غيابه في قصيدة نشرت أول وآخر ما نشرت في العدد 46 لمجلة "شؤون فلسطينية"، التي كان يشرف على تحريرها. وبعد ذلك اختفت القصيدة، تمامًا، من دواوينه.
"يَتَسَلّقُ الجِيتارَ:
ستُّ سنابلٍ تأتي من الأسرارِ.
تنهمرُ الجهاتُ عليه - منه. وهكذا تأتي الخلاصةُ:
إنَّ خمس أنامل تحمي المحيطَ من الجفاف".
يستهل درويش قصيدته، راسمًا الصورة الشعرية ابتداعًا لحميمية الأوتار الست لقيثارة لاتينية بأنامل خمس لعازفها. كأنه يشير بأصبعه: من هنا ابتدأ نيرودا؛ من موسيقاه، من أرض.
وهكذا كان، أي نيرودا، تقول القصيدة: "سِتُّ زوابعٍ تأتي من الصمت المهدَّدِ (...) إنَّ نيرودا يُغَنّي". ثم تدخله في لفيف الشعراء، إذ يأخذ صفاتهم، إضافة إلى صفِّ الكلام المُنغَّم؛ جموحهم للمخاطر واقتناصهم "البوليسيّ" للنساء كما المشاعر.
تستمر الأغنية، أغنية درويش ونيرودا في آن، متوقفة عند كل صورة تمثل الشاعر الشيلي ما دام موضوعًا لها. معرّجة، كطلقة أخيرة، عند مشترك الثورة ودون أن تخطأه، تصيح: "شَرِبتَ هدير هذا البحر نخبَ يدٍ تقاومُ في حقول الموزِ (...) كان الشرقُ يغسل وجهَهُ في لهجة صينيَّةِ. والحربُ تجعل كُلّ شيء واضحًا كالخُبزِ".
ثم تعود إلى أرضها، أمريكا اللاتينية، على الجيتار مجددًا:
"فَلاّحوكَ
صَيَّادوكَ
جَلّادوكَ
يحتشدون فوق أصابع الجيتار".
للجيتار في القصيدة رمزيتان، واحدة تعيدنا عبر التاريخ إلى أصلها الغجري، وهنا تثبت الدراسات في أصل موسيقى الفلامينكو، كونه تمردًا على الاحتقار التاريخي الذي عاناه هذا الشعب، وكما يوضح تعريف هذه الموسيقى، على الموقع التعليمي للأوركسترا الفيلارمونية الباريسية، أن اسم الفلامينكو المستوحى من طائر النحام الوردي، كان لقبًا قدحيًا للغجر إبان المرحلة الأندلسية.
كما تحيلنا، كذلك إلى الفلكلور اللاتيني، أو السياق الحضاري الذي أنتج شعرية بابلو نيرودا، وكأن درويش يبحث عن شرعية لنصّه، شرعية الثقافة.
اسم الفلامينكو مستوحى بالأصل من طائر النحام الوردي، وكان لقبًا قدحيًا للغجر إبان المرحلة الأندلسية
لتوضيح هذه الفكرة، نقتبس من كتاب "الأدب والغرابة" لعبد الفتاح كيليطو، قوله: "كيف تتم التفرقة بين النص واللاّنص؟ العملية تتمُّ إذا انضاف إلى المدلول اللغوي مدلول آخر، مدلول ثقافي يكون قيمة داخل ثقافة معينة". بينما للنص هنا مدلولان ثقافيان؛ الأول عربي يكمن في لغة الشعر وموسيقاه، صورها، أوزانها، وفي كون محمود درويش "الفلسطيني" كاتبه.
اقرأ/ي أيضًا: الشعر في كتالونيا.. مع الناس في الحارات
كما له مدلول كوني، على الجيتار الصادح من أمريكا اللاتينية، في قضية الإنسان، في الشعر كإبداع، في حرية الشعر نيرودا يغني من قلم درويش: "شطآن القصيدة لا تُدَجّنُهَا البُحَيرةُ".
لوركا، نيرودا: مصارعان لثور واحد
مجددًا، يبزغ فيديريكو غارسيا لوركا، من بين أضلُع القصيدة هذه المرة، تأكيدا أنها قصيدة شاعر، شاعرين، لثلاثة (درويش، نيرودا ولوركا) بروح واحدة:
كان فيديريكو يموت، على "سياج يحجب القمر"
الحبيب يموت
أجراسٌ تدقُّ وتختفي في القلب".
"على سياج يحجب القمر"، تستوقفني هذه العبارة لا كباقي الصور، كتابتها بين المزدوجتين مثيرة، تدفعني للعودة إلى القمر في شعر لوركا، والقمر في لسان لوركا "لونا"، لونا التي سما بها حسناء، لونا التي لقب بها الوطن، كما تخبرنا بذلك أشعاره.
يذكر نيرودا صاحبه في سيرته الذاتية، واصفًا ظروف أول لقاء به: "لقد وصل إلى المدينة (بوينس آيرس 1933) في الوقت نفسه تقريبا فيديريكو غارسيا لوركا، كي يفتتح عروض مسرحيته، تراجيديا "أعراس الدم". (...) لم نكن قد تعارفنا بعد، فتم تعارفنا خلال ذلك الزمن".
هكذا نشأت علاقتهما الوطيدة، والتي وجدت أصدق تعبير لها في الطريقة الفريدة التي اختارها لوركا لتقديم خطابي تكريمهما، معًا، في أحد الحفلات التي أقيمت على شرف الشاعرين، طريقة "آليمون"، أو المصارعة الزوجية للثيران بمعطف واحد.
يشرح فيديريكو هذه الحادثة، قائلا: "اثنان من مصارعي الثيران يصارعان في الوقت نفسه بمعطف وحيد. إن هذه الطريقة في المصارعة هي أخطر تجربة في فن مصارعة الثيران، ولذا لا ترى إلا مرة أو مرتين في القرن على حلبات النزال، ولا يمكن أن يؤديها إلا مصارعان أخوان لهما دم مشترك. (...) وهذا ما سنقوم به أنا وأنت". وذلك ما تم، كان الشاعران رجلًا واحدًا وقتها، خطابًا واحدًا، قلما، بندقية ورصاصة واحدة إلى آخر أيامهما معًا.
هكذا أهدى نيرودا قلبه حقيقة للوركا ومجازًا لإسبانيا، إسبانيا الجمهورية كما تخيلها رفيقه، كما كتب عنها، كما ناضل من أجلها، لا إسبانيا التي سفكت دم فيديريكو، لا التي كبحت زحف التحرر، لا إسبانيا الفرانكونية الدامية. يقول في مذكراته: "أما أنا عرفتها (إسبانيا)؛ مليون من الضحايا الإسبان! مليون من المنفيين الإسبان! كان يبدو لي أن هذه الشوكة لن تمحى أبدا من ضمير الإنسانية".
في التاسع عشر من آب/أغسطس 1936، تقول ذات المذكرات، أقنعت لوركا بالذهاب معي إلى السيرك في ذلك المساء، كنا سنقضي فترة ممتعة بالتفرج على عجائبه. تخلف فيديريكو عن الموعد، كان قد راح ليلقى حتفه. هكذا بدأت حرب إسبانيا التي غيرت شعري، لقد بدأت بالنسبة لي باختفاء شاعر.
تجيب القصيدة: نحن الشعراء نريد أن ننتصر، بالجمال ننتصر على القبح، بالعدالة ننتصر على الجور
على أرض القصيدة وجد لوركا، وطنه الشعر الذي لا وطن له، الشعر الثائر فـ "لماذا نُصاب بهذا الفرح، وبهذا الشجن، لماذا ننتفض؟ هل نسينا أن هذه الرهافة، وهذا الغياب، هما وطن الشعر، الذي لا وطن له؟" يتساءل محمود درويش في نصه "خمسون عامًا بلا لوركا".
اقرأ/ي أيضًا: نيرودا كتب لي قصيدة
لوركا الرابط بين طرفيها الآخرين، بخيط أحمر من الضمير الإنساني، أزرق من الحرية، وأخضر من العروبة التاريخية التي يقرها له نيرودا قائلًا: "كان (لوركا) نتاجًا عربيًا أندلسيًا ينير ويفوح مثل أيكة الياسمين على مسرح إسبانيا"، ويرثيه درويش في قصيدة باسمه:
"عفو زهر الدّم يا لوركا
والشمس في يديك
وصليب يرتدي نار قصيدة
أجمل الفرسان يحجون إليك
بشهيد وشهيدة".
هكذا لم يكن لغرض رثاء نيرودا أن يكتمل في شعر درويش، دون وجود لوركا، صنوان هما في مبارزة "الآليمون"، بالشعر والدم أخوان، يعيدان إلى الكلمات جدوى النضال في وجه الغدر.
القصيدة في المشترك الشيوعي
"إن أولئك المفكرين النظريين والكتاب الكبار فعلًا، الذين بشّروا بالشوق الإنساني إلى الانسجام، قد ثبتوا على الدوام ثباتًا واضحًا من أن الانسجام يقتضي نعامل المنسجم مع العالم الخارجي وانسجامه مع المجتمع"، يعلنها جورج لوكاش، في "دراسات في الواقعية".
عدم الانسجام البدئي، هذا المبحوث عن تكسيره من طرف الإنسان عامة، والأدباء خاصة، في حد ذاته تناقض جدلي محرك لآلية الإبداع، من خلال ذلك الدأب المتواصل للإنسان، في التوفيق بين داخله وخارجه، بين واقعه المادي ومثله، ينتج في اتساق مع كل تلكم الانفعالات المتناقضة، الأدب كما يجزع منه غوته، مثلًا، على لسان فلهلم مايستر متسائلًا: "ما ينفعني صنع الحديد الجيد حين تكون أعماقي الداخلية مليئة بالأدران؟".
حيث يجدر لفت انتباه هذا الشاعر الألماني العظيم، أن هذا السجال الداخلي لم يصنع الحديد فقط، بل صنع آلام فارتر كذلك، وموسيقى فاغنر، ونيران الثورة، وآمال هيغل... بالتالي يأخذ هذا الجدل الإنساني المرهق والمأساوي، صفته الحقة؛ جدلا تقدمي وضروري.
على ضوئه تنكشف القصيدة، صارخة بنون الجماعة:
"نيرودا سننتصر!
القيود لنا، سننتصر!
النشيد لنا، سننتصر!".
ختام في المشترك، المشترك الإنساني، الهاجس الفصامي مع الواقع أقصد، ذلك الجواب المضمر على سؤال مضمر: من نحن وماذا نريد؟، أي وإن بلكنة هايدغرية في تناول طانط، ما هو الإنسان؟ ومن هو؟ لتجيب القصيدة: نحن الشعراء نريد أن ننتصر، بالجمال ننتصر على القبح، بالعدالة ننتصر على الجور، بالسلام ننتصر على الحرب.
هكذا تبرز لنا الركيزة الثالثة من نول النص، ركيزة التماثلات بين درويش ونيرودا وقبلهما لوركا. في تناقضاتهم متماثلين، من عدم انسجامهم مع واقعهم يخلقون الإبداع. وعلى عدم الانسجام هذا يمكننا تسليط الضوء بالقول: ثلاثتهم دعوا للسلام بينما فرض عليهم الواقع حربه، ثلاثتهم قذفوا في لحظة الصراع السياسي المحتدم داخل أوطانهم، ثلاثتهم انضووا تحت نير الشيوعية مسلكًا لخير الإنسانية.
نيرودا: أعتقد أني حددت نفسي أمام نفسي شيوعيًا خلال الحرب الأهلية في إسبانيا
يورد نيرودا في سيل مذكراته شطرًا يعلل فيه اختياره الأيديولوجي قائلًا: "أعتقد أني حددت نفسي أمام نفسي شيوعيًا خلال الحرب الأهلية في إسبانيا. إن أشياء كثيرة ساهمت في قناعتي العميقة". ثم يسرد هذه الأشياء موضحًا، أنه بدأ معارضًا لكل فاشية يمينية، أما فيما يخص خط انتمائه اليساري فلم يجد في الجماعات الفوضوية إلا ممارسات مراهقة، عبثية، تناقض كل نضج للتصور ثقافي وفكري، لا كالرؤية التي منحتها إياه الشيوعية الماركسية الرصينة، والتي ناضل فيما بعد من داخل تنظيماتها.
اقرأ/ي أيضًا: نيرودا وماركيز.. قصة دردشة معلنة
درويش كذلك انضبط إلى ذات الخط الأيديولوجي، داخل الحيز الجغرافي المحتل، بين صفوف الحزب الشيوعي الإسرائيلي/راكاح في حين الخمسينات، والذي وإن كان قطعة من فسيفساء المشهد السياسي الصهيوني، إلا أنه ظل صوت الوطنيين العرب في أراضي الـ 48 لوهلة. هنا عاش درويش تناقضاته الجذرية بروح مبدعة، فمن جهة كان ضدًا لمن اغتصب أرضه، ومن جهة أخرى كان مغتربًا عن باقي الفعاليات العربية خارج الحدود، والتي كانت تعتبره، هو ورفاقه؛ سميح القاسم، إيميل حبيبي وغيرهم، مطبّعين مع الوجود الاستعماري بممارستهم السياسة من داخل مؤسساته. هذا وإن صح الادعاء نسبيًا إلا أنه غير قابل للتعميم بالمطلق على مجمل تجربة درويش، أو تجربة الشاعر الراحل والمناضل توفيق زياد، إذ تفترق السبل كثيرًا بينهما وبين حالة حبيبي أو القاسم.
وفي خضم هذه التشابهات نشأ هاجس الشعراء، درويش نيرودا ولوركا، هاجس يبرز لنا بجلاء في ختام القصيدة:
"ها نحن نتّفق الغزالة (الوطن) لا تحب الشعر
والشعراء حقلٌ أزرق (حرّية) لم يتفرع إلى بأقدام الغزالة.
(..) آه نيرودا!
لك القرنفلُ. شهرُ أيّارَ. البديل الاشتراكي. المدارسُ.
أبجديّة عامل الميناء. (...)
كل فجر كان ينتظر انطفائك كي يضيء
كل صوت كان ينتظر اختفائك كي يجيء
ها نحن نتّفق: الغزالة لا تحب الشعر في الزمن الرديء".
اقرأ/ي أيضًا: