يا لحجم تلك الكذبة! ويا لرداءتها! قصدت تلك التي كذبها الإنسان حين شاهد انفجار قدرة العلم على توليد الاختراعات وقال لنفسه: أخيرًا أستطيع الاستغناء عن العالم الطبيعي، لم أعد أحتاج إليه، سيجد العلم بديلًا لكل شيء أحتاجه. بقيت بعض الأشياء السخيفة مثل الأوكسجين والماء والغذاء، وهي متوفرة بكثرة، وشركات التجزئة تجلب كل شيء إلى مولاتها في الوقت المناسب.
تفاعلت الطبيعة والحضارة كثيرًا، وعمل ذلك التفاعل على إدخال الطبيعة في صميم الجهد الإنساني، حيث يقوم العمل والسفر والزواج والدين وفق تحولات المواسم والفصول في الطبيعة
ظهر ذلك الشرخ في علاقة اﻹنسان مع الطبيعة عند وصوله إلى عصر الحداثة، إذ لم تكن الحضارات القديمة منفصلة عن الطبيعة في يوم من الأيام، بل وفعلت ما يليق: عبدتها، وجعلت من ظواهرها آلهة، واستلهمت أفعال كائناتها ومكوناتها لفهم ذاتها. وقلّدت ما تفعله بقية الكائنات لبناء الصروح، وتربية الأبناء، وتنظيم المجتمع، والغناء، وتشييد السدود وحفر الأنفاق، وتنشيط المخيلة. وفوق هذا كله، فعلت ما لا يزال أبناء العصور الحديثة عاجزين عن فعله ويحتاجون إلى آلاف حملات التوعية كي يفهموه، حين عاشت علاقة معتدلة مع موارد هذه الطبيعة، وصنعت أنظمة مُستدامة، وأحسنت تحديد القدر الذي يمكنها أخذه من كل شيء، وأدارت بإتقان سلسلة التحلل.
اقرأ/ي أيضًا: 5 تحذيرات كبرى أطلقها التقرير الأخير للهيئة الحكومية الدولية للتغيّر المناخي
تفاعلت الطبيعة والحضارة كثيرًا، وعمل ذلك التفاعل على إدخال الطبيعة في صميم الجهد الإنساني، حيث يقوم العمل والسفر والزواج والدين وفق تحولات المواسم والفصول في الطبيعة.
وحين فكّر الإنسان بتطوير العلاقة بينه وبينها إلى ما هو أبعد من الواقع القائم، أقحم نفسه في مساعدتها على ما كانت تفعله من تلقاء نفسها وبهدوئها المعتاد، كما في الزراعة مثلًا. أي في أن تخضع الطبيعة لإرادته فإنه لم يكن يتصارع معها على الإطلاق، إنما كان يساعدها ويحاورها ويفاوضها، ولأن الطبيعة كريمة وتحترم الذكاء، لم تعطه ما يريد بل ما يستحقّ، إلا أن هذا الكائن خان ميثاق العلاقة منذ راح يسميها اسمًا مشينًا: الصراع مع الطبيعة، وكأنه قام بهزيمتها، منكرًا أنها منحته نفسها لأنها قدّرت إمكانياته لا لخوفها منه، فهي تحتفظ لنفسها بقوة مدمرة قادرة على محوه كما محت من قبله أنواعًا أخرى أشدّ بأسًا.
إذا كان هناك انفصال عن الطبيعة، كما يحلو للتنظير الشائع، فذلك يعود إلى زمن الثورة الصناعية، حين راح البشر يتعاملون مع فضائهم الحيوي كوسيلة للربح والإثراء، لا في إطار تنميته وتطويرها ليكون على حال أفضل للعيش والاستمرار.
تم إعلان الطلاق البائن حين باتت هناك مبانٍ دون نوافذ، وكأن ضوء الشمس ولون السماء وملمس الريح على الوجنتين لم تعد ذات قيمة. وحين صار الناس يعاملون الأتربة العالقة في أقدامهم على أنها وسخ. وحين باتت الأرض لا تحضر في حياتنا إلا عند السياحة، دون أن ننتبه إلى أن الذهاب إلى الشواطئ أو الجبال أو الغابات يجعل من عالمنا مجرد مكان للزيارة وليس فضاء حيويًّا للحياة كما هو فعلًا.
ثمة مشاكل لا تنتهي في عالمنا اليوم، من الملايين الذين يعيشون في جوع أو من دون ماء وصرف صحي، إلى الحروب والأمراض والهجرة.. وغيرها، كلها قضايا تستحق العناية والتفكير، لكن موضوع التغيّر المناخي الذي لا يزال ينظر إليه باستخفاف يقول إن خراب الأنظمة البيئية منذر بانتهاء الحياة على نحو كامل. ومع أن العلماء يقرعون نواقيس الخطر منذ عقود، إلا أنه من الواجب الأخلاقي علينا أن نفهم طريقة عمل الطبيعة ليكون لكل واحد منا أن يغيّر من سلوكه بما لا يُلحق أي إضرار بغيره، أو حتى بنفسه، على اعتبار أن كل الحيوات واحدة. ولعل أول ما يجب التخلي عنه تلك النظرة الدينية التي ترى في الإنسان أفضل الكائنات، وسيد المخلوقات، لأنها هي من تعطيه الحق ليفتك بالعالم وينهكه، مع أنه لا يوجد ما يؤكد أن الإنسان أعطى للحياة أكثر مما أعطت الحشرات!
ضمن هذا الإطار سيظل نظام النهب والاستنزاف الرأسمالي صاعدًا ومستمرًا في تمزيق الموارد الطبيعية بشكل جائر، وإنتاج الفضلات غير المحدود، وإطلاق الانبعاثات المدمرة، ما دام غير مهتم بشيء سوى الربح وخلق مستهلكين جدد. ولن يتوقف بل ستظل شركاته المتنوعة تحارب بلا هوادة، وتتحالف بشكل مافيوي مع السلطة، وتعمل على استمرار مشاريعها، مرة بالكذب كملصقات الصيد المستدام فوق المنتجات البحرية، ومرات بالوضوح الصريح في قتل نشطاء البيئة الذين يمثلون خطرًا على استمرار النظام.
سيظل نظام النهب والاستنزاف الرأسمالي صاعدًا ومستمرًا في تمزيق الموارد الطبيعية بشكل جائر، وإنتاج الفضلات غير المحدود، وإطلاق الانبعاثات المدمرة
إذا كانت السياسة فرصة لفحص حقارة الإنسان من حيث استعداده لتدمير الآخر، بسبب الإحساس بالتفوّق، أو الأيديولوجيا، أو الرغبة بالكسب على حسابه، فإن قضايا البيئة ترينا مستوى آخر من هذه الحقارة حين يصل إلى نقطة جنونية يحارب فيها نفسه.
اقرأ/ي أيضًا: حرائق الغابات حول العالم.. القصّة الكاملة لكوارث تخنق المعمورة
إن القصة التي تحتاج إلى أن تروى على الدوام هي قصة هذا الكائن الذي سيّطر على العالم الذي وجد نفسه فيه، وأخضعه لأكثر نزواته دناءة، ومنذ وصل إلى المرحلة التي لم يعد يخاف فيها من شيء طغى وتجبّر، ظانًا أنه بالآلات التي يمتلكها وبالأنظمة التي يدير بها شؤون آلاته، أو تدير بها آلاته شؤونه، قادر على أن يتأله، في حين أن فشل المشروع الحتمي وانتهاء صاحبه المؤكد سيأتي من أنه فوّت أمرًا بسيطًا منذ البداية: لن يستوعبَ العالمَ لأنه أكبر منه ومن استيعابه.
اقرأ/ي أيضًا:
أوكسفام: الفقراء يدفعون ثمن التغير المناخي وجائحة كوفيد -19 فاقمت عدم المساواة