ربما لا يعلم كثير من المصريين أن الدكتور خالد عبد الغفار الذي تولّى مسؤولية وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في حكومة شريف إسماعيل الثانية هو الوزير الثاني عشر منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، أي أنه خلال 6 سنوات بالتمام والكمال استهلكت مصر 12 وزيرًا لشغل هذا المنصب المهم، والذي ينحصر العمل الأساسي للقائم عليه في تأهيل شباب مصر من الطلاب الجامعيين لعبور أولى خطواتهم الفعلية في خدمة بلدهم وأنفسهم بما تحصّلوا عليه من علم وخبرات.
والسؤال الأساسي هنا: هل كثرة عدد الوزراء وتنوّع تخصصاتهم أفاد التعليم الجامعي المصري؟ وهل عاد ذلك بالفائدة على شباب مصر في أول طريق حياتهم العملية؟
التعليم الجامعي المصري تعرَّض لانتكاسة كبيرة ولن يقوم منها سوى بمعجزة، شأنه في ذلك شأن كثير من المجالات الأخرى
مؤكد أن لا هذا ولا ذاك، والإجابة القاطعة التي لا تجعل هناك أدنى مجال للشك أن التعليم الجامعي المصري تعرَّض لانتكاسة كبيرة ولن يقوم منها سوى بمعجزة، شأنه في ذلك شأن كثير من المجالات الأخرى التي تأخذ دورها في عملية التخريب/الإصلاح المستمرة، الأمر الذي يقودنا إلى مواجهة الواقع المربك لحالة الجامعات المصرية وتذيّلها قوائم الترتيب العالمي للجامعات الأفضل، بعد أن لفظت خيرة طلابها وفرّقتهم في أنحاء العالم، وبعد أن أصبحت الشهادة التي يحملها خريجونا لا تساوي ثمن الحِبر الذي كُتبت به.
اقرأ/ي أيضًا: الجامعات العربية.. الحصاد المر
حدث هذا نتيجة لأسباب عديدة يعلمها كل من له يد في العملية التعليمية الجامعية، فهم يؤكدون أن الدراسة في الجامعات المصرية متخمة بمظاهر الفساد، مثل بيع الامتحانات وتوريث المناصب الأكاديمية دون وجه حق والمقترن باستبعاد الأوائل من التعيين لحساب أبناء الأساتذة، فضلًا عن ضعف المستوى العلمي للخريج الذي لم يجعل له مكتب التنسيق مخرجًا سوى في هذا الاختيار، فيجد نفسه يدرس مواد لا يحبها رغم أنه يتمتع بقدرات تسمح له بدراسة مواد أخرى بالتأكيد سيتفوّق فيها، الأمر الذي جعل شهادات جامعاتنا من أضعف الشهادات العلمية في الخارج، هذا بخلاف سرقة الرسائل العلمية التي تكاد تكون ظاهرة بحد ذاتها، والتي لم يتصدّ لها أي مسؤول إلى الآن رغم انتشار السرقة "عيني عينك"، ولكن الفساد وغياب المحاسبة والرقابة كفيل بإنتاج أكثر من ذلك.
هذا الوضع المزري جعل من مصر وتحديدًا من منطقة "بين السرايات"، حيث تقبع الجامعة المصرية الأكبر والأعرق، سوقًا مفتوحة على مصراعيها لشراء وبيع رسائل الدكتوراه والماجستير لمَن يريد ويدفع أكثر دون جهد أو تعب.
أسباب عديدة نتيجة الجمود والفساد أصابت جلّ مؤسسات الدولة مثلما أصابت التعليم، الذي يجب أن يكون القاطرة التي تذهب بمصر للأمام
كل هذا أدّى إلى تراجع ترتيب الجامعات المصرية في تصنيف "كيو إس" الصادر عن مؤسسة "كواكواريلي سيموندس" البريطانية، والذي لم يتضمن أية جامعة مصرية في قائمة أفضل 500 جامعة على مستوى العالم، باستثناء الجامعة الأمريكية بالقاهرة التي دخلت ضمن التصنيف في المركز 365.
ولعل ذلك عائد إلى مناهجنا التي ما زالت جامدة بل وصامتة وضعيفة لا جديد فيها، ولا تأخذ بالتطوير والتحديث الذي تشهده المناهج التي تُدرَّس في الجامعات الأخرى، وتأخذ بالمنهج العلمي المعتمد على البحث والدراسة، وليس أسلوب الحفظ والتلقين المتبع عندنا المأخوذ عن كتاب وحيد في الغالب يكون لأستاذ المادة، والذي من خلاله يحقق مبلغًا محترمًا يغنيه عن الضعف الواضح في رواتب أعضاء هيئة التدريس في الجامعات المصرية والتي بسببها يُفضّل أغلبهم الهجرة إلى جامعات أوروبا وأمريكا أو حتى للبحث عن إعارة في الدول الخليجية، لرفع مستواه المادي والعلمي واستكمال دراسته، نظرًا لقلة المخصصات المالية التي توفّرها الدولة للبحث العلمي، وعدم توافر الإمكانيات والتجهيزات اللازمة بالنسبة إلى التخصصات العلمية التي تعاني قلة المعامل والمختبرات اللازمة.
اقرأ/ي أيضًا: إلغاء اتحاد طلاب مصر نهائيًا.. وعودة لائحة "مبارك"
البحث عن الهجرة أو الإعارة جعل هناك عجزًا في هيئات التدريس يناسب تكدُّس عدد الطلاب الذين يُوزّعون على الجامعات المختلفة بناءً على مجموع درجاتهم في الثانوية العامة، ليفقد الطالب الجامعي التواصل مع أستاذه كما كان يحدث من قبل، ويخرج إلى الحياة العملية وليس في متناول يده ما يسعده في حياته اليومية، لنجد أنفسنا أمام وحش هائل اسمه البطالة المنتشرة بين شباب الخريجين وغيرهم من حملة الماجستير والدكتوراه، وهي بالمناسبة أخطر أنواع البطالة.
لذلك لم يكن مستغربًا بالنسبة لي أن تمنع بعض الدول الخليجية، وعلى رأسها السعودية وقطر، مواطنيها من دراسة الماجستير والدكتوراه في جامعاتنا، وطلبت من مواطنيها البحث عن جامعات أخرى أكثر تميّزًا، بعد اكتشاف سفاراتها العديد من شهادات الدكتوراه والماجستير المزوَّرة والمنسوب صدورها إلى جامعات مصرية بعد أن تقدّم أصحابها لاعتمادها من سفارات هذه الدول، ووصل الحال ببعض الدول أن أعلنت قوائم بالجامعات المعتمدة لديها لمواطنيها الراغبين في الدراسة بالخارج على نفقتهم الشخصية واستبعدت جامعات العديد من الدول، من بينها مصر، لعدم مطابقة جامعاتها المعايير الأكاديمية لديها.
البحث عن الهجرة أو الإعارة جعل هناك عجزًا في هيئات التدريس يناسب تكدُّس عدد الطلاب المصريين الذين يُوزّعون على الجامعات المختلفة
جميع ما سبق ليس سوى بعض الأسباب التي أدّت إلى انهيار التعليم الجامعي المصري، فهناك أسباب أخرى لا تقل في أهميتها عن الأسباب التي تم ذكرها، منها عدم استقلال الجامعات ماليًا وإداريًا عن الدولة، حيث تخضع لتجارب الوزير المعني بأمورها والذي بدوره ينفّذ التوجهات السياسية للدولة التي اختارته لشغل هذا المنصب، ناهيك بتدخل الأمن المستمر في كل ما له علاقة بعمل الجامعات، بداية من تحديد ميعاد بدء ونهاية العام الدراسي وصولًا لاختيار أعضاء هيئة التدريس والمعيدين، بل وعمداء ورؤساء الجامعات، لإحكام السيطرة على الجميع سواء كانوا طلابًا أو أساتذة.
أسباب عديدة نتيجة لحالة من الجمود والفساد والترهّل أصابت جلّ مؤسسات الدولة مثلما أصابت التعليم، الذي يجب أن يكون القاطرة التي تذهب بمصر إلى الأمام، والذي بغيره لم ولن تقوم لنا قائمة، وأعتقد أنها لا تخفى عن الوزير الثاني عشر خلال 6 سنوات، والذي أتمنّى فعلًا أن يبتعد قدر ما يستطيع عن طرق مَن سبقوه، ولكن ليست الأمنيات وحدها قادرة على تغيير مسار الأشياء، خصوصًا إن كان مسارًا مُعبَّدًا وجاهزًا كما في الحالة المصرية التي تبدو فيها منظومة التعليم الجامعي قد دخلت نفقها المظلم الخاص، مشيًا على عادة استنّها أغبياء الحكم تسمح لهم بهندسة مستقبلنا جميعًا وكأنهم آلهة لا يأتيهم الباطل من أي جانب أبدًا.
اقرأ/ي أيضًا:
في مصر.. لا تعيين لحملة الماجستير والدكتوراه!
قوانين السيسي لجامعات مصر.. "للخلف در"