"إن اكثر الأيام ضياعًا في حياتنا هي التي لم نضحك فيها".
- مثل فارسي قديم
امتاز التراث الشعبي بهامش أكبر للحرية يتيح مساحة للنقد الاجتماعي والسياسي، ولكنها حرية تختفي فيها الأسماء، لذا كان الحلّ المنطقي هو التخفي وراء اسم عمومي يمكن سحبه على كل حديث يشتمل سخرية أو نقدًا لاذعًا.
شخصية جحا بمثابة ابنة شرعية للسمت الوقائي لدى الأسلاف
شخصية جحا هي بمثابة ابنة شرعية لذلك السمت الوقائي لدى الأسلاف، وهي شخصية عجيبة "تطير في الجو" وقادرة على نسخ نفسها في أكثر من مكان والتواجد في أكثر من تراث، فيمكن أن نعثر عليها في أي من الدول العربية أو في تركيا أو في بلغاريا أو حتى سلوفينيا، حتى أن بعض المؤرخين العرب نسبها إلى أحد التابعين الأوائل وزعموا نزولها في الأزمنة اللاحقة. ورغم العديد من محاولات الباحثين لتحديد شخصية جحا، فإن الأرجح أنه لم يكن "جحًا" واحدًا ذلك الذي تخبرنا الكتب بحكاياته ونوادره، لأن تلك الحكايات والنوادر "المتنوعة جدًا" لا يمكن تصديق صدورها عن شخص واحد بعينه.
اقرأ/ي أيضًا: عبد الفتاح كيليطو.. جاحظ يكمل الغناء
في كتابه "جحا العربي"، يذهب الباحث محمد رجب النجار إلى أنه على الرغم من أصالة شخصية جحا في أدبنا الشعبي من حيث الواقع التاريخي، فإن المأثور الجحوي لم يكن كله من تأليف أو إبداع جحا، بل كان تعبيرًا جمعيًا من إبداع الشعب العربي، ترسيبًا للتجربة ونزوعًا إلى السمر في آن معًا".
يذهب الباحثون إلى إدراج نوادر جحا تحت ما يسمّى عالميًا بـ"السخرية الهادفة أو الإيجابية"، فكل منها يدور حول سلبية تكشف عيبًا أخلاقيًا أو سلوكيًا يحاول الفرد إخفاءه لكنه ما يلبث أن يكشف عنه في زلّة لسان أو حركة لاإرادية. ولا يتوقف الأمر عند السخرية من الآخرين بل تمتد إلى سخرية جحا من نفسه، وهو ما نجده كثيرًا في نوادره التي يبدو فيها متحامقًا أو متكاسلًا أو أنانيًا حتى على أقرب الناس إليه، الأمر الذي يمكن اعتباره تقنية روائية متقدمة، تشبه الوقوف أمام نفسك في المرآة لترى عيوبك من خلال شخصية البطل في كتاب تقرأه.
شخصيًا، أميل لاعتبار جحا شخصية حقيقية، لكنه بالتأكيد لم يكن شخصًا واحدًا فقط، بل عدة شخصيات مختلفة عاشت في أزمان وعصور ومجتمعات مختلفة بنفس المنهج والمنطق والفلسفة والأسلوب والطريقة في التعامل مع الحياة والناس، ولعل تعدد شخصيات جحا في بلدان مختلفة دلالة على ذلك الوجود الحقيقي لتلك الشخصية، وهو أمر منطقي في النهاية بالنظر إلى أن السخرية كانت وستظل دائمًا أقصر وأذكى الطرق لتمرير النقد اللاذع.
كتب التاريخ الإسلامي نسبت شخصية جحا إلى أبي الغصن دجين الفزاري، الذي عاصر الدولة الأموية، ويدعم هذه الرؤية نسب بعض الباحثين للشخصية إلى قبيلة فزارة العربية، بل وتأكيدهم على ولادته في العقد السادس من القرن الأول للهجرة وقضائه الشطر الأكبر من حياته في الكوفة. باقي الرواية تتحدث عن أنه عاش في أواخر الدولة الأموية، واشتهر بين معاصريه بروحه المرحة وحسّه الفكاهي حتى ضُرب به المثل، وورد في مخطوط "نثر الدُرّ" لأبي سعد الآبي المتوفى سنة 423هـ أن الجاحظ حكى "إن اسمه نوح، وكنيته أبو الغصن، وأنه أربى على المائة". ولكن ثمة روايات أخرى تنسب جحا إلى أحد التابعين اسمه دجين بن ثابت، أو تجعله معاصرًا لعهد الخلفاء المسلمين الأوائل، وهي كلها مسائل تعزّز الجدل الخاص بالوجود التاريخي لجحا.
يربط باحثون ظهور شخصية جحا بالعصور التي اشتدت فيه الصراعات القومية
بعيدًا عن كل هذا، يربط باحثون ظهور شخصية جحا بالعصور التي اشتدت فيه الصراعات القومية، أو التي تتحوّل فيها نظم الحكم إلى استكمال مقومات السلطان والمكانة في بداياتها، حيث يختلّ ميزان العدل وتبرز تناقضات النظم الاجتماعية والعلاقات الإنسانية والمواقف النفسية. وكما يقول محمد رجب النجار في كتاب "جحا العربي" المشار إليه سابقًا، فى ضوء هذه المتغيرات وما تفرزه من تناقضات خاصة في عصور الكبت السياسي والقهر العسكري والقمع الفكري؛ يصبح استدعاء الرمز الجحوي محاولة شعبية للتغلّب على تلك التناقضات من ناحية، أو مقاومة الانحراف والتسلّط من ناحية أخرى، وتصبح النكتة ذات وظيفة سياسية أو اجتماعية مباشرة، غايتها النقد السياسي أو الاجتماعي والنيل معنويًا من الحكام والولاة. لذلك لم يكن غريبًا ولا عبثيًا أن يربط الوجدان الشعبي بين نموذجه الجحوي وتيارات الحياة العامة السياسية والاجتماعية، وأن يقول رأيه على لسانه فيما يدور حوله من أحداث.
اقرأ/ي أيضًا: لماذا يكره العرب الغربان؟
ارتبط جحا بحياة الناس ويومياتهم، وكانت نوادره ترتكز أساسًا على المواقف السلبية للناس، تسجيلًا وإدانة بأسلوب مميز يجمع بين الفكاهة والسخرية والحكمة في آن واحد، فكان تسليط الضوء عن طريق ذلك التكنيك الذكي على كثير من العيوب الاجتماعية والنفسية والعادات الجامدة، ومن بينها بعض الممارسات الدينية الخاطئة وطرق التفكير الرجعية في الأمور الدينية. ويشير الدكتور حامد طاهر في دراسته عن نوادر جحا ودورها النقدي أنها وردت مشتملة على قيام جحا بتقمُّص وظيفة أو منصب أحد الرموز الدينية، وأحيانًا بإجراء محاورة مع واحد منهم ، وذلك بهدف إبراز سلبية معينة فى سلوكه وتصرفاته التى تتنافى مع الدين الإسلامى، أو تتناقض مع انضباط قواعده.
كذلك فإن النوادر تشتمل أيضًا على مدى الجهل بأبسط شروط العبادات، وخاصة لدى العامة. حدث أن أصيبت ناقة أحد الفلاحين بالجرَب، فأخذها إلى جحا وقال له: "اقرأ لي على هذه الناقة لتشفى"، ويبدو أن الرجل كان يعاني مما نعاني منه الآن من استفحال ظاهرة العلاج بالقرآن بقراءة بعض آياته على أجساد الناس والحيوانات حتى تشفى من المرض والسوء، فأراد جحا أن يعطي للرجل درسًا بالإشارة، فقال له: "إذا أردت أن تبرأ ناقتك، فأضف إلى قراءتي شيئًا من القطران". حتى عندما جاءته إحدى جاراته وقالت له: "أنت تعلم أن ابنتي معتوهة متمردة، فأرجو أن تقرأ لها سورة أو تكتب لها حجابًا"، قال لها: "إن قراءة رجل مُسِنّ مثلي لا تفيدها، ابحثي لها عن شاب في سن الخامسة والعشرين أو الثلاثين ليكون لها زوجًا وشيخًا معًا".
حدث أيضًا أن رجلًا سأله ذات مرة سؤالًا يشبه تلك الأسئلة التي يمطرها علينا "مسلمو التلفزيون" يوميًا، فقال: "أيهما أفضل يا جحا.. المشي خلف الجنازة أم أمامها؟"، فردّ جحا: "لا تكن على النعش، وامشِ حيث شئت". ويبدو أن ميل بعض رجال الدين إلى تعقيد الأمور الدينية شديدة البساطة للناس لم يكن غائبًا عن جحا، فعندما سُئل ذات مرة: "هناك كلب بالَ على حائط، فكيف نطهِّره؟"، قال جحا: "إذا كنت تريد أن تطهِّر الحائط بالفعل فيجب أن تهدّه وتبنيه 7 مرات"، فقال الرجل: "ولكنه الحائط الذي بيني وبينك"، وهنا قال جحا: "أما هذا الحائط فقليل من الماء يطهِّره".
سئل جحا: "أيهما أفضل.. المشي خلف الجنازة أم أمامها؟"، فردّ: "لا تكن على النعش، وامشِ حيث شئت"
معاناة أخرى يبدو أن جحا اختبرها مع التدين الشكلي البعيد عن جوهر وروح الدين، يوردها الكاتب عبد السميع السيّد في مقال له في صحيفة "المقال" المصرية، حيث بين أن جحا "كان ينزعج جدًا من فكرة التقرُّب إلى الله في أوقات الامتحانات والكوارث والمصائب والحاجة فقط، وحدث أنه عندما هبّت رياح شديدة ذات يوم على بلدته، وجرى الناس إلى المساجد يصلّون ويسارعون بالتوبة ويتضرعون بالدعاء طلبًا للمغفرة وخوفًا من الآخرة، صاح فيهم جحا ساخرًا: "يا قوم،لا تُعجّلوا بالتوبة فإنما هي زوبعة وتسكن"". ويتابع الكاتب: "أما خطب الجمعة فكان يعاني تكرارها ورتابتها وابتعادها عن أي ابتكار أو إضافة" ويورد قصة يحكى فيها أن جحا صعد المنبر في صلاة الجمعة وبعد أن حمد الله وأثنى عليه قال: "أيها المؤمنون، هل تعلمون ما سأقوله لكم؟"، فأجابه السامعون: "كلا، لا نعلم"، فقال: "إذا كنتم لا تعلمون، فما الفائدة من التكلم؟"، ثم نزل من المنبر، وعاد في يوم آخر، فألقى عليهم نفس السؤال، فأجابوه هذه المرة: "أجل، إنا نعلم"، فقال لهم: "ما دمتم تعلمون ما سأقوله لكم فما الفائدة من الكلام؟"، ونزل، فحار الحاضرون في أمرهم، واتفقوا في ما بينهم على أن تكون الإجابة في المرة القادمة متناقضة، قسم يجيب لا وقسم يجيب نعم، ولما أتاهم جحا في المرة الثالثة وألقى عليهم سؤاله الأول، اختلفت أصواتهم بين لا ونعم، فقال: "حسنًا جدًا، مَن يَعلَم يُعلِم مَن لا يَعلَم".
وفي ذات المقال يقول الكاتب عبد السميع السيد إنّه "حتى فكرة التعامل مع الأحاديث النبوية وقبولها لمجرد وصولها إلينا عبر سلسلة من الرجال العدول ذوي السمعة الطيبة، سخر منها جحا ذات مرة قائلًا: "حدّثني نافع عن ابن عمر أن رسول الله قال: خلّتان مَن كانتا فيه كان من خالصة الله. قالوا: فما هما؟ قال: نسي نافع واحدة، ونسيت أنا الأخرى"". وأضاف الكاتب أنّه عندما فكّر حاكم جبّار مثل تيمورلنك في إضفاء نوع من القداسة الدينية على نفسه بالخلط بين الدين والسياسة على طريقة الرئيس المؤمن، قال لجحا: "تعلم يا جحا أن خلفاء بني العباس قد اتخذوا لأنفسهم ألقابًا مثل الواثق بالله والمستنصر بالله، فماذا تقترح أن يكون لقبي يا جحا؟"، فاجابه: "أعوذ بالله".
اقرأ/ي أيضًا: كان يا ما كان.. حكايات شعبية ضد القهر والاستبداد
الحكاية الأخيرة متخيلة بالطبع ويصعب تصديق حدوثها مع ملك كان القتل لديه أسهل من تنظيف أسنانه، ولكن جحا لم يسلم من التكفير بطبيعة الحال بسبب هذا المنطق، فقد وصل الأمر إلى درجة اتهامه في زمن الحجاج بن يوسف الثقفي بعصيان ولي الأمر وجلده 50 جلدة، حتى قالوا له بعد الجلد: "اذهب يا كافر"، فقال جحا: "لا، أنا لست كافرًا، لأني أحفظ القرآن الكريم"، فقال الحجاج: "إذن اقرأ"، فقرأ جحا: "بسم الله الرحمن الرحيم، إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يخرجون من دين الله أفواجًا"، فصاح الجندي فيه مصحّحًا: "إنها "يدخلون" وليس "يخرجون""، فقال جحا: "هذا كان زمان، ولكنهم الآن يخرجون بسبب ظلمك".
اقرأ/ي أيضًا: