وجهت الحكومة البريطانية ضربًة غير مسبوقة لحرية الصحافة والحق في الوصول إلى المعلومات بعدما أقدمت شرطة لندن على اعتقال المواطن الأسترالي، الصحفي والناشر جوليان آسانج مؤسس موقع ويكيليكس، بعد إعلان الإكوادور إلغاء حق اللجوء السياسي الذي كانت سفارتها منحته له في لندن قبل نحو سبعة سنوات أثناء حقبة الرئيس السابق رافائييل كورييا. وهو ما يمثل خطوًة عملاقة على سلم انهيار الحريات الصحفية وحماية الصحفيين الذين يتعرضون لضغوطات من أجل السكوت عن فضح سياسات الدول المهيمنة على القرار السياسي عالميًا.
رئيس تحرير ويكيليكس كريستين هارفنستون لألترا صوت: أنفقت الولايات المتحدة وبعض الأجهزة البريطانية ملايين الدولارات بمساعدة الإكوادور للتجسس على آسانج في ملجأه
جوليان آسانج.. سيرة مختصرة
كان عام 2006 مفصليًا في حياة الصحفي والناشر الأسترالي جوليان آسانج (47 عامًا) عندما أعلن عن تأسيس موقع ويكيليكس الخاص بنشر التقارير والمقاطع المصورة والوثائق السرية والخاصة بسياسات الدول المهيمنة على القرار العالمي للرأي العام، لكن الموقع الذي شكل قفزًة نوعية في تاريخ الصحافة الحديث بقي منسيًا إلى حد ما حتى عام 2010 عندما قام بنشر مقطع مصور يظهر القوات الأمريكية تطلق الرصاص من مروحية عسكرية على مجموعة من المدنيين في العراق.
اقرأ/ي أيضًا: جوليان آسانج: مستعد لأي مصير
لكن هذا المقطع الذي دفع بموقع ويكيليكس ليتصدر مواقع الصحافة العالمية قوبل بتعرض آسانج للملاحقة من قبل الشرطة البريطانية، وقامت باعقتاله في العام عينه بناء على مذكرة اعتقال دولية صادرة عن السويد تتهمه "باغتصاب امرأة والتحرش بأخرى وممارسة الجنس معها عنوة" أثناء زيارة قام بها للسويد لإلقاء محاضرة.
قامت بعدها الشرطة البريطانية بوضع آسانج تحت الإقامة الجبرية تمهيدًا لتنفيذ قرار المحكمة بتسليمه للسويد بعد رفضها الطعون المقدمة من فريق الدفاع الخاص بآسانج، ما دفع به إلى اللجوء إلى سفارة الإكوادور في لندن التي منحته حق اللجوء السياسي الدبلوماسي في سفارتها في آب/أغسطس 2012 حيث أقام حتى لحظة اعتقاله، وعلى الرغم من إسقاط القضاء السويدي التهم الموجهة لآسانج فإنه لا يزال يواجه تهمًا متعلقة بالاغتصاب لطالما نفاها في حواراته الصحافية، إضافة لشهادات وقرائن عديدة أبرزها الدفاع تأييدًا لنفيه.
حملة "تجسس موسعة" على آسانج في سفارة الإكوادور
منذ تاريخ نشر المقطع المصور الخاص بالقوات الأمريكية، بدأت واشنطن بملاحقة آسانج بتهمة نشره معلومات أمريكية سرية عبر موقع ويكيليكس، ألحقت بتوجيه واشنطن اتهامات جديدة لآسانج بعد نشر ويكيليكس رسائل إلكترونية مسربة من بريد اللجنة الوطنية الديمقراطية الإلكتروني، وبريد مدير حملة هيلاري كلينتون الانتخابية جون بوديستا قبيل الانتخابات الرئاسية الأمريكية، الأمر الذي تعتبر الولايات المتحدة أنه أثر بشكل سلبي على قرار الناحب الأمريكي.
وخلال السنوات التي قضاها آسانج لاجئًا سياسيًا في سفارة الإكوادور في لندن كان عرضًة لانتقادات لاذعة من الدبلوماسيين الأمريكيين، فقد وصفته المرشحة الرئاسية كلينتون بـ"الإرهابي" على خلفية نشره لمئات الآلاف من الوثائق الأمريكية السرية، كما أكد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو على أن آسانج يمثل "جهاز استخبارات عدائي غير حكومي"، وأنه "لا يشمله الدستور الأمريكي الذي يحمي الصحفيين"، رغم صدور قرار من محكمة المعلومات البريطانية يعتبر موقع ويكيليكس مؤسسة إعلامية.
ومنذ وصول الرئيس الإكوادوري لينين مورينو للسلطة على أكتاف حملة يسارية سرعان ما انقلب عليها وتحالف مع أقصى اليمين من أصدقاء دونالد ترامب، بدأت علاقة آسانج بالتدهور مع سفارة الإكوادور في لندن بعد اتهامه بتسريب معلومات عن حياة مورينو الشخصية. وعلى الرغم من أن آسانج كان يتحمل تكاليف إقامته مع قطته على نفقته الخاصة، فقد قامت سفارة الإكوادور بقطع خدمة الانترنت عن آسانج، ومنعت عنه الزيارات في وقت سابق من العام الفائت، كما بدأت بتضييق المساحة التي كانت مخصصة لإقامته، ولطالما هددته بإلغاء لجوئه السياسي بسبب استمرارية موقع ويكيليكس بنشر الوثائق المسربة.
وقبل يوم واحد من اعتقال الشرطة اللندنية لآسانج قال موقع ويكيليكس إن مؤسسها يتعرض لعملية "تجسس موسعة" داخل سفارة الإكوادور، وأنه من الممكن طرده خارج السفارة في أي وقت، وصباح اليوم الخميس قامت الشرطة اللندنية باعتقال آسانج بتهمة عدم المثول أمام المحكمة عام 2012، ومخالفته لقانون الكفالة، فيما قالت وكالة أسوشتيد برس نقلًا عن بيان الشرطة إن الأخيرة اعتقلت آسانج "نيابة عن السلطات الأمريكية".
كرسي الإعدام الأمريكي!
في تصريح خاص لـ"ألترا صوت"، اعتبرت محامية آسانج جينيفر روبنسون أن اعتقال آسانج "لم يأتِ بالطريقة العدوانية جدًا التي تم فيها تماشيًا مع الدعوة الملفقة وضعيفة التمثيل والثقة في السلك العدلي السويدي، بل إن وراء خطوة الاعتقال مسألة خطيرة جدًا، قانونيًا وحقوقيًا، لطالما حاول آسانج تجنبها والتحذير منها خلال السنوات الماضية"، مشيرًة إلى أن هذه المسألة الخطيرة تتمثل بـ"وجود طلب قائم فعلًا من أجل تسليمه للولايات المتحدة التي تنتوي محاكمته وصولًا لكرسي الإعدام. علمًا أنه ليس مواطنًا أمريكيًا، فكيف يكون قد خان الولايات المتحدة بأي شكل؟".
وتابعت روبنسون التي تعمل ضمن فريق الدفاع القانوني عن آسانج بالقول إنه: "حتى لو كان أمريكيًا بحكم المواطنة افتراضًا، فكل أنشطة آسانج مسخرة لصالح المكاشفة للرأي العام ونشر الحقائق التي وصلته كأي ناشر يتحلى بالأمانة والضمير الحي تجاه الجمهور، لكن السخط السياسي من المؤسسة الأمريكية ضد آسانج هو ما يسيّر الملف برمته، فليس سهلًا على بعض المجرمين أن يواجهوا جرائمهم".
ومضت روبنسون في حديثها مع ألترا صوت بالقول: "هنا، لا أقف ضد الاعتقال لأن أسانج موكلي، أو لأن هذه القضية تشكل مطمعًا مهنيًا لي، إنما، وباتفاق الأمم المتحدة معي في هذا الرأي، لأن هذا الاعتقال يشكل انتهاكًا صريحًا للحقوق الأساسية للإنسان، وللإنسان اللاجئ السياسي والمهددة حياته، وليس فقط اليوم، بل على امتداد سبعة سنوات دأبت هيئات الأمم المتحدة على إصدار بيانات بهذا الصدد، وحتى القضاء البريطاني نفسه، سبق أن اعترف رسميًا بويكيليكس مؤسسة إعلامية شرعية، وبعمل آسانج أنه يندرج ضمن العمل الصحفي الشرعي".
وكان آسانج في حديث سابق مع ألترا صوت في شباط/فبراير 2017 قد شدد على أن "الصحافة الحرة هي ما يتوجب أن ندافع عنه"، مضيفًا: "أنا شخصيًا مع الدفاع عن الصحافة عندما تكون مستندة إلى الحق والحقيقة. وما خص الخروج من السفارة أو الترحيل من عدمه، اكتفي بالقول إن هذه مواقفي، وأؤكد أنني مع الصحافة الحرة دومًا، وعلى استعداد لمواجهة أي مصير ستودي بي قناعاتي إليه".
أسانج ضحية إخلاصه للحقيقة
من جهته وصف إدوارد سنودن في حديثه مع ألترا صوت اعتقال آسانج من داخل السفارة الإكوادورية في لندن بـ"الجريمة الحقيقية، وبكلمات الأمم المتحدة ليس بكلماتي فقط"، مضيفًا أننا اليوم "نشهد تساوقًا مريبًا ومزعجًا ومخيفًا في آن معًا مع نهج الولايات المتحدة في قمع الحريات وإخفاء الحقائق"، مشيرًا إلى أن "آسانج ضحية إخلاصه للحقيقة"، وسنودن كان موظفًا في وكالة الأمن القومي الأمريكي، حصل على اللجوء السياسي في روسيا بعد تسريبه معلومات سرية عن الوكالة في عام 2013.
بينما قالت باميلا أندرسون صديقة وخطيبة آسانج لألترا صوت: "لن يكفي القول إنني مصدومة، لأنني مصدومة من حجم الجريمة وأسلوبها، لكني لست مصدومة من هذا التصرف المعيب بحق آسانج"، وأضافت متساءلة "هل تريد لندن تنفيس أزماتها وغباءها في البريكست على حساب حياة جوليان؟! هذا هو السؤال الذي يهم أمام الجريمة الكبرى التي تتفاخر بها بريطانيا اليوم".
أما رئيس تحرير موقع ويكيليكس كريستين هارفنسون كشف في تصريح لـ"ألترا صوت" أيضًا أن الولايات المتحدة وبعض الأجهزة البريطانية "أنفقت ملايين الدولارات بمساعدة الإكوادور للتجسس على آسانج في ملجأه"، وأضاف بأننا اليوم "نشهد حلقة جديدة من مسلسل التجسس والجرائم ضحيتها ليس آسانج فقط، إنما نحن جميعًا والحقيقة معنا".
وقال الشريك السابق في موقع ويكيليكس ومؤسس موقع أوبنليكس دانيال دومشايت بيرغ لألترا صوت إنه: "رغم كل شيء شاب علاقتي بآسانج، إلا أن هذا لا يهم"، مضيفًا أنه لا يستطيع "القول بشأن أحداث اليوم إلا أن الحقيقة في خطر، من تهمه الحقيقة في هذا العالم سيكون في خطر أكبر منذ اليوم"، مؤكدًا على أن "أعداء الحقيقة لا يهمهم توخي الحقوق أو التزام القانون، هم فقط مهتمون بتصنيع الكذب وإسكات الحقيقة".
في حين هاجمت كريستينا بالجيناري العضو في الفريق الاستشاري للرئيس الإكوادوري السابق رفائييل كوريا قرار الحكومة الإكوادورية بسحب اللجوء السياسي من آسانج الذي كان حصل عليه خلال فترة ولاية كوريا (2007 – 2017)، وخلال حديثها لموقع ألترا صوت قالت بالجيناري إنه: "سبق للرئيس كوريا منذ الدقائق الأولى لعملية الاعتقال أن أكد على مواقفه السابقة بشأن ملف أسانج".
وأشارت بالجيناري إلى أن كوريا اعتبر "أن خلفه لينين مورينو هو أكبر خائن في التاريخ الإكوادوري واللاتيني إجمالًا؛ خان الرئيس الحالي بلاده بالسماح للشرطة البريطانية باقتحام سفارتها واعتقال ضيف لاجئ فيها، أي في الإكوادور"، ولفتت بالجيناري إلى تأكيد كوريا على "أن مورينيو (رئيس الإكوادور الحالي) ما هو إلا رجل فاسد ارتكب اليوم جريمة موصوفة بحق الإنسانية لا يمكن غفرانها أو نسيانها".
كما أدان وزير الاقتصاد اليوناني السابق ومؤسس حركة الديمقراطية في أوروبا يانيس فاروفاكيس اعتقال الشرطة اللندنية لآسانج، مضيفًا في حديثه لـ"ألترا صوت": "أدين بشدة ما تعرض له الصديق جوليان آسانج من خطف، عداء المنظومة المهيمنة للحقيقة وللصحفيين ولحرية الرأي لا يحتاج أي دليل بعد اليوم. إنها مزرعة الأخ الأكبر، وهذا ما يجب رفضه".
يبدو وصف فاروفاكيس لاعتقال الشرطة اللندنية لآسانج بأنه دليل على "أنها مزرعة الأخ الأكبر" واقعيًا رغم مرارته
اقرأ/ي أيضًا: اعتراف القضاء البريطاني بويكيليكس منظمة إعلامية.. جولة لصالح حرية الصحافة
وأشار فاروفاكيس إلى أنه سبق أن تحدث مع ألترا صوت عن أن آسانج صديق مقرب، مؤكدًا على أن "التكنولوجيا تتيح للدولة وللنظام المهين أن يضطلع أكثر بما نفعله وأن يمتلك أدوات سيطرة وقمع أكثر، لكن هذا الخوف انزاح بعيدًا عندما شاهدت ويكيليكس أول مرة، وهي فكرة جوليان آسانج اللافتة والعبقرية"، وتابع متسائلًا: "إذًا ما مصير مواجهة الهيمنة إذا كان المناضلين لأجل عالم حر سيسكتون عما يتعرض له آسانج من محاولة تصفية صريحة؟"، مضيفًا أنه "هذا هو آسانج يدفع ويواجه ثمن قناعاته وانحيازه للحقيقة بكل فخر وشجاعة".
نهايًة، يبدو وصف فاروفاكيس لاعتقال الشرطة اللندنية لآسانج بأنه دليل على "أنها مزرعة الأخ الأكبر" واقعيًا رغم مرارته، في ظل تراجع الحريات الصحفية في البلاد نفسها التي تتفاخر بحرية الصحافة بينما تترك الصحافة اليمينة الصفراء والعنصرية لتشن كل أنواع الحملات والتلفيق بأريحية، وحماية الصحفيين والرأي الآخر، لصالح جرائم الحرب، والتحالفات السياسية، وانتهاكات حقوق الإنسان، وتعزيز الصراعات العسكرية في الدول النامية أو منطقة الشرق الأوسط على حساب مكاسبها السياسية.
يذكر أن اعتقال آسانج قد شكل حدثًا إعلاميًا وحقوقيًا سيطر على مشهد النقاش العام عبر الشاشات والصحف الكبرى، وتفاعلت الكثير من الشخصيات الأكاديمية والسياسية مع الأمر ضمن تضامن واسع مع حقوق آسانج بأن لا يتم تسليمه والتنكيل به إرضاء للولايات المتحدة. في هذا الصدد انطلقت رسالة مفتوحة للتوقيع عبر حملة صدرتها حركة الديمقراطية في أوروبا - ربيع أوروبا، تحت عنوان "لا تسلموا أسانج"، تجاوزت في ساعاتها الأولى حدود الـ25 ألف توقيع.
اقرأ/ي أيضًا:
كيف عرّى جوليان أسانج التلفيق والفبركة في مؤسسات إعلامية كبرى؟