يأخذ بيتر بان أطفال آل دارلنغ إلى نفرلاند، أرض الخيال والأحلام، وبعد مغامرات عديدة شيقة يشعر الأطفال بالحنين إلى بيتهم فيغادرون الجزيرة، عائدين إلى الواقع، تاركين بيتر بان وحيدًا هناك. وربما أراد مؤلف المسرحية، جيمس باري، أن يقول بأننا لا بد من أن نكبر، وأن التقدم في العمر يعني التخلي عن فضاء الخيال، مغادرة نفرلاند.
في كتابه "الحيوان الحكّاء"، لا يكتفي غوتشل ببيان لغز وجود الحكاية وحسب، بل ويوضح مركزيتها أيضًا
غير أن جوناثان غوتشل يرى خلاف ذلك، مؤكدًا أننا جميعًا بيتر بان، لا أطفال دارلنغ، نتظاهر بأننا كبرنا وأننا صرنا واقعيين وعمليين، لكننا في الحقيقة لم نغادر نفرلاند إطلاقًا.
اقرأ/ي أيضًا: تُرجم قديمًا: خط عرض 42
في كتابه "الحيوان الحكّاء" (الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات تكوين ـ ت: بثينة الابراهيم)، لا يكتفي غوتشل ببيان لغز وجود الحكاية وحسب، بل ويوضح مركزيتها أيضًا، إذ يمتد دورها إلى ما وراء الروايات والأفلام، لتهيمن على الحياة البشرية بكل وجوهها. وفي عالم اليوم المزدحم بمنتجات التكنولوجيا، فإن الحكاية لا تزال متشبثة بالبقاء، بل هي في حالة ازدهار. يعدد غوتشل الإشارات المؤيدة:
لا تزال الكتب القصصية أكثر رواجًا من تلك اللاقصصية، إذ تُنشر عشرات الآلاف من الروايات حول العالم كل سنة، وبأرقام إجمالية لا تنقص بل ترتفع، وفي الولايات المتحدة وحدها تُنشر رواية جديدة كل ساعة، ويباع بعض هذه الروايات بشكل هائل.. ويتساءل غوتشل: "متى أبهجت الروايات كلًا من الناشئة والبالغين أكثر من سلسلة الشفق لستيفاني مايرز، أو كتب هاري بوتر لجي كي رولينغ؟ متى كانت آخر مرة أحدثت فيها الروايات أية هزة ثقافية أكبر من سلسلة ما بعد نهاية العالم المتروك لتيم لاهاي وجيري جنكنز، التي بيِع منها 65 مليون نسخة؟ متى باع المؤلفون كتبًا أكثر لجمهور أكثر إخلاصًا مما فعل جون غريشام وتوم كلانسي ونورا روبرتس وستيفن كنغ وستيغ لارسون؟".
ومع ذلك، فإذا كانت قراءة الكتب قد تراجعت فهذا لا يعني تراجع الحكاية، فقد صارت الشاشات تنوب عن الكتب في معظم الأحيان. وفي صالات السينما وأمام التلفاز وشاشات الكمبيوتر.. ما الذي نفعله سوى الاستماع إلى حكايات؟
هذا عن الحكايات التي ينتجها كتاب محترفون، فماذا عن تلك الحكايات التي ننتجها بأنفسنا على مدار اليوم: قص أحلامنا على مسامع أهلنا، نمائمنا عن الأصدقاء الغائبين، الأحداث والوقائع التي نرويها.. وفي كل ذلك نحن لا نعكس الواقع كما هو، بل نعيد صياغته على هيئة حكايات. إننا أيضًا حكاؤون.. وبالفطرة.
اسرح بخيالك في سديم ما قبل التاريخ ــ هكذا يحثنا غوتشل ــ وتخيل أن هناك قبيلتين بشريتين فقط، تعيشان جنبًا إلى جنب في وادٍ ما في أفريقيا. إنهما تتنافسان على الموارد المحدودة ذاتها، وستنقرض إحدى القبيلتين تدريجيًا وسترث الأخرى الأرض. فلنسم إحدى القبيلتين بشعب العمل والأخرى بشعب الحكايا.
ينصرف شعب الحكايا من يوم العمل في وقت أبكر، ويملؤون وقت فراغهم بقص الأكاذيب والوقائع المختلقة والخيالات الغريبة، أما شعب العمل فيعملون لوقت أطول، يصطادون أكثر ويجمعون من الثمار كميات أكبر، وعندما يتعبون لا يضيعون وقتهم في الهذر والحكايات بل يخلدون للنوم ليجددوا نشاطهم في اليوم التالي..
يسأل المؤلف: لو أننا لم نكن نعلم نهاية القصة، ألن يراهن الكثير منا على أن شعب العمل سيعُمّرون أكثر من أولئك التافهين، شعب الحكايا؟.. ولكن "حقيقة أنهم لم يفعلوا، هي أحجية القص".
التلفاز وألعاب الفيديو ووسائل التقنية الرقمية المستجدة.. جعلت القصص كلية الوجود وغامرة وجذابة بشكل خطير
ولسبر أحجية القص هذه، يجول الكاتب على أمكنة معرفية عديدة: يبحث في نظرية التطور، في تحليل الأحلام، في التاريخ.. وعبر هذه الرحلة الممتعة تتجمع اقتراحات وجيهة وأفكار ذكية.
اقرأ/ي أيضًا: عبد الفتاح كيليطو.. فن الاستطراد والخطأ
ثم يصل الكتاب إلى التساؤل عن مستقبل الحكاية. ويقول غوتشل إن التلفاز وألعاب الفيديو ووسائل التقنية الرقمية المستجدة.. جعلت القصص كلية الوجود وغامرة وجذابة بشكل خطير. وبالتالي فالخطر الحقيقي لا ينبع من كون القصة ستختفي من الحياة البشرية في المستقبل، بل من كونها ستسيطر كلياً. إننا مهددون بالتخمة من الحكايات الرديئة، ولتفادي هذا المصير، يقدم المؤلف بعض الاقتراحات، منها:
ــ لا تقنط من مستقبل القصة، ولا تتحول إلى متذمر من ظهور ألعاب الفيديو أو تلفزيون الواقع. ستتطور الطريقة التي نعيش بها القصة. لكن بوصفنا حيوانات حكّاءة، لن نستسلم بعد الآن..
ــ اقرأ الأدب وشاهده، لأنه سيجعلك أكثر تعاطفًا وأكثر قدرة على خوض معضلات الحياة. وتذكر أننا، بطبيعتنا، متعطشون للقصة. عندما ننغمس عاطفيًا في شخصية وحبكة، يسهل صهرنا وتشكيلنا.
ــ احتفِ بقدرة القصص على تغيير العالم (تذكر كوخ العم توم)، لكن حاربها (تذكر ميلاد أمة).
ــ إن تدريبات كرة القدم ودروس الكمان جميلة، لكن لا تضع جدولًا لطفلك بعيدًا عن نفرلاند، إنها جزء حيوي من النشأة السليمة.
ــ اسمح لنفسك بحلم اليقظة. فأحلام اليقظة هي قصصنا الخاصة الصغيرة، التي تساعدنا على التعلم من الماضي والتخطيط للمستقبل.
ــ في المرة القادمة التي يقول فيها ناقد إن الرواية جنس محتضر بسبب الافتقار للجدة، تثاءب فحسب. لا يتجه الناس إلى بلاد الحكايا، لأنهم يريدون أمرًا جديدًا بشكل مدهش، بل يذهبون لأنهم يريدون المتعة القديمة للقاعدة القصصية العالمية.
ــ انتبه بشكل أكثر أهمية، إلى أن معرفة قوة القَص، ومصدرها وسبب أهميتها، لا يمكن أن تقلل من عيشك لها، فاذهب وته في رواية، وسترى.
اقرأ/ي أيضًا:
ريكاردو بيجليا في "القارئ الأخير".. يكتب ليقرأ المعنى منزاحًا في مكانٍ آخر