في الجامعة الأردنية حيث درست، تورّطت مع أحد الأساتذة في قسم اللغة الإنجليزية حين ناديته "دكتور". بدا الرجل متفاجئًا بتعالٍ عجيب، حين نبّهني إلى ضرورة أن أناديه بلفظ "بروفيسور"، أو بالأحرى "بروفيسِر" كما تنطق بالإنجليزية تقريبًا. لم أعرف الفرق وقتها وأنا الذي بالكاد بدأ يرطن بهذه اللغة لأول مرّة في حياته في الجامعة. كل ما أدركته هو أننا مهووسون بالألقاب، كما أملت عليّ بقايا طبيعة خنوعة نشأنا عليها في مدارسنا وبيوتنا أن أنادي هذا الرجل باللقب الذي يحلو له، وأبدي له ما يرغب من تبجيل واحترام.
سخر الكاتب الأمريكي جوزيف إبستين من لقب "الدكتورة" الذي يسبق اسم جيل بايدن، وأثارت سخريته تلك لغطًا كبيرًا
في السنة الثالثة اشتد ساعدي قليلًا بالإنجليزية، واكتشفت أنّ هذا الرجل يمثّل علينا لعبة ما، وذلك حين تجاهل سؤالًا عن فرق بين كلمتي "Homicide" و"Manslaughter" وكان الموضوع في اللغة الإنجليزية القانونية. أجاب "البروفيسر" بأن الكلمتين سواء، وأن لا فرق بينهما. تفحصت معنى الكلمتين في القاموس الذي كنت أعتله معي رغم ثقل وزنه، وهو قاموس "لونغمان" أحادي اللغة للمتعلمين، فرفعت يدي متحمّسًا لأنبه إلى الفرق بين الكلمتين. لكنّ الرجل احتدّ كثيرًا يومها، وأخبرني مهدّدًا "بما أننا في محاضرة اللغة القانونية، فإنني سأحاكمك"، لكني أرحته من عناء تلك المحاكمة وانتقلت إلى شعبة أخرى بعد أن رفعت قضيتي لعمادة الكلية، وتقصّدت كلما رأيته بعدها أن أناديه بما يكره: "دكتور" فلان.
اقرأ/ي أيضًا: جيل بايدن.. سيرة غامضة لسيدة أمريكا الأولى
ذكرني بهذه القصّة مقال رأي نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية للكاتب الأمريكي جوزيف إبستين، يشنّ فيه هجومًا لاذعًا على من ستصبح قريبًا "السيدة الأولى" في الولايات المتحدة، منطلقًا من السخرية من لقب "الدكتورة" جيل، وهو اللقب الذي التصق باسمها ويظهر على حسابها الرسمي على تويتر، إذ يطالبها في المقال وينصحها بإسقاط هذا اللقب الذي وصفه بأنه "فارغ ويدعو للضحك".
"حضرة السيدة الأولى، السيدة بايدن، جيل، يا صبيّة..". هكذا بدأ إبستين مقاله المثير للجدل، والذي خاطب فيه زوجة الرئيس المنتخب جو بايدن، بوصف أبويّ متعالٍ، بقوله "kiddo"، ونصحها بأن تسقط لقب الدكترة عن اسمها، لأنه لم يعد ثمة أحد يستخدم هذا اللقب لمن هو حاصل على درجة الدكتوراة، وأن لفظ الدكتور بات يطلق بشكل شبه حصري على ممارسي مهنة الطبّ بزعمه.
ثم راح إبستين يحقّر من إنجازات جيل بايدن الأكاديمية ويزدريها، بل وراح يغمط عمومًا من قيمة درجة الدكتوراه التي يرى أنها تراجعت في العالم الأكاديمي وصارت سهلة المنال على كلّ من رغب بالحصول عليها، ولا سيما في مجال الإنسانيات والعلوم الاجتماعية على حدّ زعمه. كما راح صاحبنا يتحسّر على الحال الذي آل إليه وضع الدرجات الأكاديمية، مقارنًا ذلك بعصر ذهبي سابق، حين كان على الباحث أن يتقن عدة لغات، من بينها اليونانية أو اللاتينية، إضافة إلى مناقشة أطروحته أمام لجنة من كبار المختصين، هذا عدا عن ضرورة اجتيازه امتحانًا شفويًا يختبر معرفته العامة في المجال الذي يبحث فيه، وذلك قبل أن يعرّج أخيرًا على ظاهرة "الشهادات الفخرية" التي بات من اليسير أن تمنح للأغنياء والسياسيين والمشاهير.
أما الجانب الآخر من مقال إبستين، فلم يكن سوى انتفاخٍ بإنجازاته هو، وكيف أنّه درّس في الجامعات على مدى عقود وهو لا يحمل سوى شهادة البكالوريوس، والتي حاز عليها "غيابيًا" من جامعة شيكاغو، وذلك لأنه كان لا يشارك في المحاضرات، ويقدّم امتحاناته وهو على رأس عمله في شركة في تكساس. وراح يتحدّث عن ترفّعه على لقب "دكتور"، وكيف أنه اعتاد على تجاهل كلّ من ينادي عليه بهذا اللقب، لا تواضعًا منه، بل تنزّهًا منه على ما يبدو عن النزول إلى ذلك المستوى.
يرجع تاريخ كلمة "دكتور" في الإنجليزية إلى القرن الرابع عشر الميلادي، وقد استخدمت الكلمة حينها في سياق كنسيّ خاصّ لتحيل إلى رجال الدين المعنيين بشؤون الروح
سرعان ما ضجّت الصحف ووسائل الإعلام بالمقال، ووُصِف بما وُصف به من عجرفة وتحيّز ضدّ المرأة وجرأة عليها، كما نالت الصحيفة نفسها قدرًا كبيرًا من اللوم على نشر مقال "لا طائل من ورائه" سوى التفاصح وإثارة الجدل. وبلغت الردود على الرجل حدًا من الكثرة والصخب، حتى أن صحيفة وول ستريت جورنال نفسها قد تساءلت في مقال لمحرر قسم الرأي فيها، بول دجيغو، عمّا إذا كانت حملة بايدن ومن فيها من استشاريين إعلاميين قد أطلقوا حملة منظّمة على الرجل لتلقينه درسًا لمجرّد سخريته من لقب "الدكتورة" ودعوته لإسقاطه، خاصّة وأن العديد من الموظفين في حملة بايدن كانوا قد بدأوا الحملة على الكاتب عبر حساباتهم على تويتر. وبينا يستمرّ الجدل بينهم حول هذه المعضلة الغريبة التي شغلت الرأي العام الأمريكي أكثر مما شغلته نتائج "المجمع الانتخابي" وأخبار اللقاح وترخيصه، رحت أنا لأبحث قليلًا في تاريخ كلمة "دكتور" بالإنجليزية، وإليكم ما وجدت.
اقرأ/ي أيضًا: ماذا قالت زوجة بايدن في أول تغريدة لها بعد إعلان فوزه؟
يرجع تاريخ كلمة "دكتور" في الإنجليزية إلى القرن الرابع عشر الميلادي، وقد استخدمت الكلمة حينها بحسب تدوينة في الموقع الإلكتروني لقاموس ميريام ويبستر في سياق كنسيّ خاصّ لتحيل إلى رجال الدين المعنيين بشؤون الروح والعارفين باللاهوت والكتاب المقدّس بإجازة رسميّة من الكنيسة الرومانية الكاثوليكية. لذا فإن الكلمة كانت أقرب في دلالتها إلى "المعلّم"، وهو ما تؤكده أصول الكلمة في اللاتينية، والتي تعني "المعلم"، والمشتقّة من الفعل اللاتيني "docēre" بمعنى "علّم". وقد تزامن انتشار هذه الكلمة مع بدء عصر النهضة في أوروبا وما شهده من تزايد حركة التعليم والتثقيف العام، ومع نهاية القرن الرابع عشر توسّعت دلالة الكلمة ولم تعد تقتصر على المعلمين من رجال الدين، بل صارت تطلق على كل رجل علم أو ممارس معروف للطبابة.
أما في العربية، فمن اللافت أن يتقاطع هذا المعنى لكلمة "دكتور" في الإنجليزية الوسطى مع الفعل العربيّ "طبّ"، والذي يخبرنا معجم الدوحة التاريخي أنه يعود إلى العام 74 قبل الهجرة (550 ميلادية)، بمعنى "علّمه الأمر وعرّفه إيّاه"، إضافة إلى المصدر "طبّ" بمعنى معرفة الشيء والعلم به، وهو ما يذكّر كذلك بكلمة "حكيم" والتي تستخدم في لهجات بلاد الشام أيضًا لوصف الطبيب ومناداته.
اقرأ/ي أيضًا:
تقدير موقف: السياسة الخارجية لإدارة بايدن.. المقاربة الفكرية والملامح الرئيسة