لم أتخيل مطلقًا أنني سوف أنفق ثلاثة عقود من عمري في أجواء الصراع السوداني الدامي، والحروب العبثية التي لا تنتهي، وجولات التفاوض التي تخفي تحتها طموحات شخصية لقادة سياسيين وعسكريين، كل ما يهمهم مغانم القصر الجمهوري، ذلك العرين الرحب للسُلطة، ولذلك السبب اشتعلت الحرب لنصف قرن من الزمان، وصعدت قافلة من الشهداء، مع دمار هائل، وهنا يصف الكاتب الروائي عماد براكة المشهد تمامًا، بالقول: "بلاد كل ما حاولت أن تنهض، تتكئ على بندقية".
نحو نصف قرن والجهود الدولية لرأب الصدع السوداني ووقف نزيف الحرب، باءت بالفشل، بسبب أنه لا خطة جادة، أو بالأحرى لا رغبة جادة
الأسبوع الماضي، كان رئيس الوساطة الأفريقية للسودان ثابو مبيكي يقلب أوراقه المزدحمة بالحيرة، في فندق "راديسون بلو" بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، بعد أن قضى ردحًا من الزمان في محاولات دؤوبة لإحكام الفتق بين الحكومة السودانية والمعارضة المسلحة.
اقرأ/ي أيضًا: نهاية السودان
تلك هي حال ثابو مبيكي وفريقه الذي ظل ينخر في جدار المفاوضات لسنوات عديدة بلا فائدة، بالطبع لإثيوبيا سحر طبيعة يغري بالصبر والبقاء هنالك دون الشعور بالضجر، لكن الخرطوم في انتظار يوم السلام، فقد نابها من طول السهر رهق شديد، والصحافة تتوق لزف البشرى، فثمة مرغوب عصي المنال؛ إنه السلام بالطبع.
لا يفتأ المجتمع الدولي الملهي بحماقات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يذكرنا أنه لا يملك خُطة للوصول بالفرقاء السودانيين إلى سلام نهائي، أو أنه لا يريد ذلك، كما أن ثابو مبيكي نفسه بات في مواجهة كابوس عصي على التبديد، هو الخلاف المزمن للجمع بين المعارضة بشقيها المدني والعسكري على طاولة واحدة مع الحكومة، لجهة تضارب الأجندة. الحركات المسلحة تفاوض باسم مناطق جغرافية تعاني من التهميش، ولديها قادة أصحاب طموحات عالية، بينما المعارضة المدنية تسعى للوصول إلى تسوية عادلة مع النظام الحاكم، تضمن لها الحريات والتداول السلمي للسُلطة.
كانت هنالك محاولة بالفعل في العام 2011 لتجميع المعارضة العسكرية في كيان واحد، عُرف بـ"الجبهة الثورية"، لاحتواء تناسل الحركات المسلحة، لكنها انتهت إلى النزاع حول قيادة الجبهة، ومن ثم تخلقت محاولة أخرى لكيان سياسي هذه المرة، أخذ اسم "نداء السودان" في كانون الأول/ديسمبر 2014، وهو تنظيم سياسي سوداني، أسسته قوى سياسية عسكرية ومدنية بهدف حل الأزمة السودانية وتشكيل حكومة مؤقتة لإدارة مهام الفترة الانتقالية، ليتأكل هو الآخر بمرور الأيام.
الخرطوم المدينة التي تنام في حضن النيلين كدأبها، لا تعبأ بجولات التفاوض من كثرتها، فهي أقرب إلى مسلسل مكسيكي مُمل، تنفض وتنعقد فيه الحلقات الطويلة، يكبر أحفاد الزعماء السياسيين ويتعلمون الحلاقة على رؤوسنا. فما يعني الخرطوم بالضبط أن تكون بمنأى ولا تشتعل النيران في نوافذها، ما يهمها هو سجال فواتير الخبز والنفط والمعيشة، وأن تعيش لياليها هانئة لا تكدرها سوى حفلات "الدي جي" وثرثرة الأزواج.
علق مبيكي جولة المفاوضات في وقت كانت الفرصة فيه مواتية لتحقيق نجاح كبير، لكن يبدو أن إطالة أمد المفاوضات يُدفئ جيبه وجيوب فريقه
وبالعودة للمفاوضات المنعقدة في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، فقد كانت الجولة هذه المرة تبدو أسهل من سابقاتها، قادها من جانب الحكومة مساعد الرئيس السوداني إبراهيم محمود، ومن قبل الحركة الشعبية (قطاع الشمال) الجنرال عبد العزيز الحلو الذي يعاونه صاحب كتاب "الطريق إلى المدن المستحيلة" أبكر آدم إسماعيل الكاتب والمثقف المشغول بجدلية الهامش والمركز. انصب النقاش بالضرورة حول منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق التي تدور فيهما رُحى الحرب منذ انفصال جنوب السودان في كانون الثاني/يناير 2011.
اقرأ/ي أيضًا: عن صورة دارفور الباهتة
ومع ذلك، علقت الوساطة الأفريقية المفاوضات، بصورة مباغتة، وكان هناك توقيع على بيان لا يحمل أي تعهدات عملية، كأن الهدف منه جبر خاطر الوساطة، ودون أن يجيب السيد ثابو مبيكي على السؤال البديهي، وهو: لماذا علق الجولة بينما كانت الفرصة مواتية لتحقيق اختراق كبير؟ لماذا تراهن الوساطة على الزمن، وتعلق أزمات السودان فوق مشبك أجندتها المشبوهة؟ ألا تعلم مقدار المال والأمال المبذولة؟
المثير للشك أن ثابو مبيكي ظهر في ذات الليلة على مائدة تفاوض سودانية أخرى بذات العاصمة المطيرة أديس أبابا، كمتعهد دائم، وذلك من خلال التوقيع على اتفاقية المناطق منزوعة السلاح بين دولتي السودان وجنوب السودان، ليحتكر فريقه الرعاية الأبدية، دون أن يتخلى عن لقب الوسيط ويفقد امتيازاته، وهو بالضبط ما يحرص عليه الرجل، ترحيل الأزمة السودانية، والحفاظ على وساطته ونثرياته الدولارية، بجانب حرص من يقف خلفه على ركل علبة الصلصة إلى الأمام، ومطاردتها.
إضمامة من الأسئلة مطروحة على طاولة الوساطة الأفريقية، إزاء عجزها وفشلها المستمر في تحقيق السلام، ودأبها على ترك شعلة الصراع ملتهبة، حتى وإن بدأ ثابو مبيكي كحامل "صخرة سيزيف" يجاهد للصعود إلى قمة جبل السلام، إذ لم يعد لديه زمن كافٍ لإنجاز مهمته، فقد بدأ العد التنازلي لرفع تقريره إلى مجلس الأمن، فهل سيقبل خليفة مانديلا والحاكم الثاني لجنوب أفريقيا بعد سقوط نظام الفصل العنصري، أن يوصم بالفشل وخيبة الأمل الكبرى؟
بطبيعة الأمر، للحكومة رغبة في ألا تتعافى المعارضة المسلحة من صراعاتها، ولسان حالها: "اجعل كيدهم في نحرهم"، حتى يظل مقعدها شاغرًا بالداخل، فما يجري في أديس أبابا وبالداخل، لعبة مكشوفة ومحاولة لشراء الوقت، إذ إننا لم نسمع بحاكم في الدنيا، كل الدنيا، استيقظ ضميره فجأة ونهض من فراشه الدافئ ليؤذن في الناس، ويسقيهم الحليب والعسل، ويتنازل لهم طوعًا عن قصوره وحاشيته، لكنه سيفاوض ويحاور ويراوغ، لتصدق فيه مقولة الكاتب جورج أورويل: "إذا أردنا أن نحكم وأن نستمر في الحكم يجب أن نكون جديرين بتشتيت معنى الحقيقة".
ثمة أطراف حكومية وأخرى معارضة لا تريد أن تتوقف هذه الحرب اللعينة، ليس لأنها حرب مقدسة، ولكنها تستأثر على نحو 70% من ميزانية الدولة، وهذا يعني أن أقاليم تحظى بامتياز خاص، وأحلاف تسترزق باسم التنمية والإعمار والعودة الطوعية، ورحلات يومية بالطائرات، كما تدخل من ذات الباب نفس الوجوه الطامعة في عطاء الوزارات و"شوكلاتة" السلطة.
كما أنها تعني اليتم والنزيف والدمار بالنسبة لضحاياها، فالحرب بالنسبة لآخرين تعني المنح والمؤتمرات الدولية والعطايا الدولارية
وهنالك أيضًا، على الجانب الآخر، وقف الحرب وزوال شبح التهميش، يعني أن لا تكون ثمة قوات حفظ سلام في دارفور (يوناميد)، ومِنح ومؤتمرات دولية ونثريات دولارية، وألا يسقط دافع الحصول على اللجوء السياسي، والمغانم المخبوءة في القارة العجوز، وهذا يعني أن الحرب هي حياة الدعة والمطايب للبعض، مثل ما أنها اليتم والنزيف والدمار وحصالة الأرواح والحريق الذي يلتهم كل شيء في السودان.
اقرأ/ي أيضًا: