كثيرًا ما يرافقني عنوان رواية ميلان كونديرا "حفلة التفاهة" هذه الرواية التي كانت خاتمة أعمال كونديرا، وكأنه يهزأ من نفسه ومن كتاباته ومن قرائه وناقديه الذين يأخذون رواياته بأفكار وفلسفة وتأويلات أكثر مما تحتمل. للتفاهة تُقام حفلات مثل حفلات القبائل البدائية الدينية التي يسيطر عليها الصراخ والنشوة لا لشيء إلا لقوة تدفعهم لحالة غريبة عنهم. هكذا نحن نجري عميًا وبكمًا وصمًا وراء التفاهة المتفشية حولنا كمرض عصري مزمن، لكن هل تستحق العناية هذه التفاهة؟ أنسخر منها مثل كونديرا أم نأخذها على محمل الجد؟
أقتبس من رواية كونديرا "أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام، لم يكن ثمة سوى مقاومة وحيدة ممكنة: ألا نأخذه على محمل الجد". يكرر كونديرا هذه الفكرة في رواياته هل بإمكاننا تغيير العالم؟ لا، توقفنا عن تغييره لن يغير شيئًا، نحن نقف ونعطي أحكامًا ونقدًا ونستمر في الفعل، نتكرر، ولا نتغير. الظروف والبيئة والزمان والمكان يتغير لكن الإنسان ما زال مثلما هو، ينقل أمراضه من جيل إلى جيل مع اختلاف درجة المرض.
قبل فترة انتشرت صورة للممثل المصري "محمد رمضان" يشارك جمهوره لحظات حياته الحلوة وحلمه الذي تحقق بشراء السيارتين الأقرب إلى قلبه. محمد رمضان الممثل الذي ارتبطت صورته في ذهني بشخصيته في مسلسل ابن الحلال، وبأفلامه عمومًا عن الشاب الفقير المظلوم دائمًا، ملامحه تساعده حقًا على تقمص الشخصية المسحوقة، بمجرد النظر لعيونه المغرورقة بالدموع ستبكي عليه! الفقير الذي يأخذ حقه بيده بالبلطجة والذي يدفع الظلم بالقوة والبلطجة أيضًا. بمسلسله الأخير انتقدوه بشدة على الصورة التي يصدرها لفئة شعبية كبيرة، الصورة الخطيرة التي تهدد قيم مجتمع العصابات، غير آبهة بقانون أو دول تحكم تسلطها!
اقرأ/ي أيضًا: أسواق الكتب القديمة.. حياة في مكان آخر
لا أعتبر محمد رمضان بأفكار أفلامه تهديدًا للمجتمع فقط، بل داعمًا لليوتوبيا المخيفة والمتخيلة في أذهاننا
لا أعتبر محمد رمضان بأفكار أفلامه تهديدًا للمجتمع فقط، بل داعمًا لليوتوبيا المخيفة والمتخيلة في أذهاننا، يجعلها واقعًا ويبني سدًا منيعًا وقويًا بزيفه وغطرسته وبسخافته بين أمثاله وبين المجتمع الذي لا يكف عن التناسل، هنا تتجلى التفاهة. لكنه ممثل يفصل بين حقيقته أي واقعه وبين ما يمثله، ليس ذنبه المتفرج الذي يأخذ التفاهة على محمل الجد!
أشد ما أحزنني تعليق أحدهم على صورة سيارتيه "الراجل اشترى عربيتين بفلوسكم فحب يوريهملكم. مش أنا وأنت وغيرنا اللي بنتفرج على أفلامه وبندفعله تمن عربياته وبنحققله أحلامه وبنضيع أحلامنا" هكذا ينحط الفن وهكذا يبيعنا الفن الفشار، ليس المطلوب من الفن ولا الفنان تغيير المجتمع، لكن على الأقل ليكن له رسالة قيمة وواقعية وقريبة من ذلك المجتمع الذي على وشك الانفجار. لمن السخرية أن محمد رمضان يتحدث لجمهوره من المصريين، هل هو فعلا منتمٍ لشعبه؟ سؤال محير فعلًا، "أنتم شعب وإحنا شعب" هذا التقسيم مترسخ في مجتمعاتنا منذ القدم بكل المجالات، "أنتم شعب ونحن شعب" أولئك الذين يبنون أمجادهم وأحلامهم على أكتافنا ومن لحمنا.
الصورة الثانية
المشاهير على الإنستغرام وسناب شات الذين صنعهم الإعلام والمتابعون المأخوذون بالكليشيهات المستهلكة، هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم حماة المجتمع وصورته المضيئة، الذي يفرحون بإنجازاتهم الساذجة وينسبونها ويهدونها لجمهورهم ولوطنهم كأنهم يعبرون عن إنجاز مشروع قومي ووطني، كأنهم ينهضون بمجتمعاتهم، كأنهم يمثلون رقي وثقافة مجتمعاتهم! لكن من ينظر للصورة الأخرى؟ الصورة التي تعبر عن نرجسيتهم وتجارتهم بالعواطف والأحلام؟ من ينظر إلى أن إنجازاتهم التافهة بمقالة أو بمنشور حاز على الكثير من الإعجابات أو برحلة حول العالم ما هو إلا إنجاز شخصي يمثل حياتهم ونشأتهم، ولا يعبر بأي حال من الأحوال عن إنجاز ضروري ومُلح لرفعة المجتمع، بأنهم ليسوا صورًا مبهرة، من جعلهم مثالًا للصورة غير العادية؟ هنا تتجلى التفاهة أيضًا لكنها تفاهة مثقفين!
اقرأ/ي أيضًا: هكذا كانت إيلينا
لا أعلم ما الغاية من نشر صورهم مسافرين في أنحاء أوروبا، أو مثلًا نشر صورهن مع أسطورتهن، وقصة نجاح حبهم الذي توج بالزواج ونشر كل هذه الخصوصية على هذه المواقع مع تلك الصور الرومانسية في قالب إسلامي مع حجاب ونظرات سهوكة وخجلة! ماذا وراء نشر هذه الرسالة لمتابعين بالآلاف؟ المتابعين الذين يقفون مشدوهين بتلك الحياة المصطنعة ومثاليتها! أرسلتهم مشاركة لحظات حياتهم الجميلة وتصدير صورة السعادة التي قد تكون تافهة ولا جدوى منها في عالم يتحطم وينحط يوميًا.
من قال إنها سعادة؟ كيف جعلونا نتنافس على نشر أشد خصوصيات حياتنا باسم من أكثرنا سعادة
ثم من قال إنها سعادة؟ كيف جعلونا نتنافس على نشر أشد خصوصيات حياتنا باسم من أكثرنا سعادة، من أكثرنا يعيش بقالب المادية وبسببه نسير وراءها بفجع وإصرار كأنها كمال الحياة؟ كيف من الممكن التعبير عن أن حياتي أجمل وتستحق النشر أكثر من حياتك التي بلا معنى؟ من الطبيعي أن إجاباتهم دائمًا جاهزة، من كان ينتقدهم وأيًا كان فهو حتمًا يشعر بالغيرة! طبعًا، ونعم نشعر بالغيرة، من قال إنها شيء محرج نخشى الاعتراف به!
هي شعور فطري ورد فعل طبيعي على فعلهم، لكن السؤال الأكثر أهمية، أليس هذا قصدكم وغايتكم؟ إثارة الغيرة؟ فنحن جميعنا لسنا بهذا النقاء والبياض، بالله عليكم نحن لسنا المسيح! وإلا أجيبوني ما الهدف من نشر صور رحلتك مع أسطورتك في أوروبا والمطاعم الغالية وأزيائكم العالمية الباهظة على صفحاتكم الشخصية؟ وأنكم وأخيرًا وجدتم المعنى والهدف وأحلام حياتكم في إنجازاتكم الصغيرة التي تصورونها كأنها شيئًا لم يكن لجيش من المتابعين يعافرون باستمرار وأنتم تقدمون لهم التنمية البشرية الجاهزة؟
متابعون لا تعرفونهم وهم لا يعرفونكم كثيرًا بل يشاهدون ويقارنون حياتهم البائسة بالصورة التي تصدر لهم كمثال عن الحياة المثالية السعيدة، لستم مقنعين كثيرًا برسالتكم السامية والقيمة ولا فرق كبير بينكم وبين الصورة الأولى لمحمد رمضان عن التفاهة سوى أنكم تتمظهرون بكلمات فصحى وبتشابيه وتعبيرات أرقى من لغة محمد رمضان. والهالة التي ترافق صوركم على أنكم أناس وجدتم غايتكم ومعنى وهدفًا لحياتكم الجميلة، مرحبًا بكم بمجتمع النخبة والصفوة.
اقرأ/ي أيضًا: الجزائر... مكتبة للمفكّرين الأحرار
صورة ثالثة تستحضرني هى نساء حارتنا في حفلة من الحفلات متجمعات كل منهن تنظر للأخرى محاولة جذب ولفت انتباهها، منهن من تخرج بذهبها في هذه الجمعات خصيصًا لتكايد به غيرها من النساء، ومنهن من تكايد بنجاح ابنها في الخارج، ومنهن من تكايد بزوج ابنتها الثري، ومنهن من تكايد جارتها بصحتها، والآخر الذي يباهي بعرس ابنه وعدد الخرفان المذبوحة في غداء ولده العريس. تلك المباهاة التي تشوبها روح المنازعة. كل منهم ينظر للآخر ويبرز ما عنده لمجرد إرضاء نزعته الأنانية ومراضاة حقده على الآخر، لمجرد أن ينظر لقوته بمرآة عيون الآخرين.
هذه صورة عن التفاهة والفراغ الذي نعيشه أيضًا لكنه قد يكون أقل أو أكثر تفاهة من الصورتين اللتين سبقتا تلك الصورة لأنها تجري في الحارة ولأناس عاديين وبسطاء جدًا وليس لهم منبر إعلامي للتحدث من خلاله. قد تكون البيئة والشخوص مختلفين بأفكارهم وبظروفهم وبما عندهم لكنهم جميعهم يخدمون نفس الرسالة والهدف: التفاهة، المباهاة بما لا نملكه ولا يملكونه أصلًا، الغرور، اللاشيء سوى إثبات الوجود بالتفاهة.
صورة أخرى لهذا المجتمع الذي ينضح بتوافه الأمور: أولئك الذين يمسكون بخطاب "الكتابة من أجل المجتمع" متخفين عن السبب الحقيقي وراء كتاباتهم، أسباب قد تكون مادية بحتة أو لمجرد الشهرة أو لأن الظهور بصورة كاتب مشوقة وجذابة. أولئك لا يكتبون سوى التفاهة ولن يخرج معهم غير ذلك وسيظل أدبهم فارغًا وبنفس المستوى الركيك لأنهم لا يدركون الحاجة الحقيقية للكتابة! لا يدركون أنفسهم ولا يواجهونها بالحقيقة.
صورة أخرى مكررة كل خمس سنين: في المسلسل المصري "ونوس"، الشيطان ونوس يعرف كيف يغري شابًا يحب الظهور بمظهر الملتزم الحريص على الإمامة في الصلاة ليتفرد ويظهر نفسه فقط. يغريه بتكبيره أمام الناس ويعطيه أكبر من حجمه بكثير، يضفي على التزامه العلم والفقه وتلبية المحتاج، هذا المتعالم عرف الشيطان ونوس من أين يدخل عليه، فأسوأ من الجاهل هو المتعالم، ودخل عليه بالفعل وأصبح داعية، ومقدم برنامج ديني، هذا النموذج ليس غريبًا وطريقته في الصعود مألوفة: ادخل لهم من أبواب تفاهتهم.
في النهاية، نحن لا نغير العالم بل نصنع المزيد من الحمقى والتافهين، ويبدو أنه لا سبيل لتغيير ذلك، فلم نأخذه على محمل الجد؟ ولماذا هذه المقالة أصلًا، والحياة صراع الجميع مع الجميع كما قال ميلان كونديرا؟
اقرأ/ي أيضًا: