منحت حنان الشيخ ذاكرتها للقارئ. إن لم يكن كلّها فالجزء اليسير منها.. وأكثر من ذلك. لم تكتب حنان الشيخ عن قرب، بل رصدت للبعد مسافةً جعلتها تكتب كل أعمالها خارج لبنان. وإن عالجت في المهجر موضوعات تمسّ شؤونًا محليّة، فالحميم في وجدانها عن البيئة الأم، والأم نفسها لم تكتبه إلا من خلف الحدود ومن وراء البحار. لرؤية أوضح؟ ربما، أو ربما من أجل هامش أكبر للتذكر، عبر المرور على الماضي دون تعمّد نكئه، بل استدراجه إلى فضائي السرد والوصف الواسعين، ليكون فعل التذكّر أبعد من السرد نفسه، ولا يقتصر عند إعادة رسم مشهديته على التوصيف الحسيّ-"الحدسي" في كثير من الأحيان.
عالجت حنان الشيخ في المهجر موضوعات تمسّ شؤونًا محليّة
مع ذلك لا تبدو الروائية اللبنانية حنان الشيخ المقيمة في المهجر مهجوسةً بالماضي ومناجاته. ولا هي ممن يتذكر ليقف على الأطلال، حيث تؤكد حنان الشيخ أن ليس مهمًا أين يولد المرء بل ما الذي يصنعه. صحيح أنها من مواليد بيروت في العام 1945، لكنها لطالما أحبّت السفر. وقد سافرت حنان الشيخ إلى مصر لتحصيل علومها، مدفوعةً بحبها للكتابة الذي حملها خلال ترحالها من "النهار" اللبنانية إلى "روز اليوسف" المصرية، ثم أعادها إلى بيروت، لتتنقّل بعد ذلك بين عددٍ من الدول العربية ثم تستقر في لندن.
اقرأ/ي أيضًا: ربيع جابر.. الفتنة البيروتية
ماذا لو لم تولد حنان الشيخ في لبنان؟ هذه فرضية لم تغب عن بالها، والإجابة عليها تتراوح ما بين تعددية احتمالات مسقطها وحصريّة ما ستكون عليه. فقد كانت حنان الشيخ لتولد في أي مكان آخر على هذه الأرض، ومع ذلك كانت جينات الكاتبة لتولد فيها أينما كانت. فهل يُعقل ألا تقترن رهافة حنان الشيخ مع حب الكتابة؟
من أعمال حنان الشيخ "انتحار رجل ميت"، "حكاية زهرة"، "بريد بيروت"، "إنها لندن يا عزيزي"، "حكايتي شرح يطول"، وأعمال كثيرة أخرى. كان اللقاء بها في بيروت، وفي احتفالية ثقافية ضخمة، وهذا أمر لا يحتاج إلى مقدمات، كما لا يتطلب حضورها الروائي والإنساني أي إضافات. قد يكون لقاؤها مرتبًا وفق مواعيد "إنجليزية" مضبوطة، وقد يتمّ بالصدفة فتبتسم هي مرحّبة بالصدفة ومن حملته إليها.
تتحدّث حنان الشيخ بطلاقة من عاش عمرًا كاملًا في لبنان، لكنها ترتب مواعيدها كلها وفق ساعة "بيغ بن". هي كثيرة الانشغال. وكثيرة القلق وتشعر دومًا أنها تحمل كل شيء معها أينما أقامت. في لندن لديها أعمال تنتظرها، لكن شخوص تلك الأعمال المكتوبة أو لم تكتب بعد ترافقها. قد تدعوها ربما إلى العودة سريعًا إلى عاصمة الضباب، أو تشغل بالها بمصائرها.
هل تُقيم حنان الشيخ في لندن ولا تحيا فيها وتعيش همومها؟
اقرأ/ي أيضًا: علوية صبح.. عزلة في منطقة الاشتباك
هل تُقيم حنان الشيخ في لندن ولا تحيا فيها وتعيش همومها؟ بلى. فهي معنية أيضًا بما تشهده هذه المدينة من أحداث وما يدور حولها في كل أنحاء العالم. من هنا لم يغب هذا المكان وتفاعلها معه عن كتابات حنان الشيخ، فالكاتب بحسب ما تقول هو كالإسفنجة يمتصّ كل ما حوله. إلا أنها مع ذلك لا تنظر إلى لندن ويومياتها بعين أي انجليزي، فهي تظلّ كاتبة عربية وترى الأمور من منظارها وبلغتها وأدواتها، وهي تركز على ظروف الجاليات العربية في لندن والدول الأوروبية.
مشاريع حنان الشيخ دومًا هي الكتابة، فالكتابة ثم الكتابة. تنجز حنان الشيخ نصًا لتبدأ آخر، فالكتابة فن متواصل ومتناسل، لن تنضب سطوره وإن احتجبت بين ضباب لندن.
اقرأ/ي أيضًا: