نجلاء أبومرعي كاتبة وإعلامية لبنانية تعمل مقدّمة أخبار وبرامج في "التلفزيون العربي". ولكنها أيضًا شاعرة صدرت لها مؤخرًا مجموعة شعرية بعنوان "يد في بطن الموجة" ضمّت 34 قصيدة دارت مدار الحب والفقد والألم والاغتراب ومشاعر أخرى استخدمت مجازات لافتة في التعبير عنها.
تكتب أبومرعي كمن يختبئ في مكان سريّ لتقول فيه ما لا يُقال في المساحات المكشوفة من الحياة. صوتها الشعري الهامس صوتُ الحياة الداخلية المركبة، وصوت الكائن الذي لم يجد من يبالي بحقيقته، وصوت الهشاشة الإنسانية التي وجدت في الكتابة طريقة لإعادة بناء تفاهم مع الحياة.
في هذا الحوار، تجيب الشاعرة اللبنانية على جملة من التساؤلات المرتبطة بالشعر وكتابته.
- لنعد إلى البدايات، كيف بدأت علاقتك مع الكتابة؟ ولماذا الشعر دون غيره؟
ولدت علاقتي مع الكتابة من الحاجة. لجأت إليها في عمر الثانية عشر تقريبًا، ولم يكن ذلك بقرار مني، بل وجدتني مدفوعة إليها بحكم الظروف آنذاك. بدت الكتابة المكان الآمن بالنسبة لي، حيث أستطيع التخفيف من وحدتي، ومرافقة نفسي، وإكمال أحاديثي مع الذين ابتعدوا عني سواءً عن رغبة أو اضطرار؛ حيث أُحادثني وأشكو لذاتي وأقوّي من عزيمتها.
نجلاء أبومرعي: ما أخذني من الشعر لسنوات هو خيبة أمل، وما أعدني إليه هو رغبتي في تخطيها
لم أكن طوال المرحلة المدرسية أفكّر في الكتابة كمسار، وإنما كملجأ. لكنني تنبّهت لاحقًا إلى أن ما أكتبه قد تحوّل، سنة بعد أخرى، إلى شيء آخر: من يوميات ارتفعت عن التفاصيل، إلى خواطر وتساؤلات، وبعدها نصوص.
كل ما نُشر لي في الصحف اللبنانية، قبل مجيئي إلى لندن، كان في إطار العمل الصحفي. أما نصوصي التي كتبتها آنذاك فتاهت في الكراسات التي أضاعت طريقها خلال التنقّل. لا أقول إنها كانت نصوصًا ناضجة وجاهزة للنشر، لكن كنت أحب لو بقيت الكتيبات ذكرى من تلك الفترة. لا أذكر من تلك النصوص إلا ذلك النص الذي كتبته عن دقات الساعة. تحضر في بالي أكثر تلك الليلة في صيف بيروت والكهرباء مقطوعة بينما أنا جالسة على شرفة منزلنا أكتب الكلمات لغاية الاستئناس.
في لندن بدأت أنشر نصوصي بحرص وحياء بالغ، وغالبًا بدعوة. وظللت أسمّيها نصوصًا. حتى عندما كنت أُسأل إن كان ما أكتبه شعرًا، لم أكن أعرف بماذا أجيب. علمًا أنه في تلك المرحلة كان واضحًا بالنسبة إلى أنني لا أنحو صوب كتابة القصة أو الرواية. أعرف أنني أكتب في ظل الشعر، لكن ليس لي أن أسمّيه كذلك ما لم يفعل الآخرون.
فعلت ذلك مع الصحافة أيضًا. قمت ببعض الأعمال الصحافية في المدرسة، ودرست الصحافة في كلية الإعلام، ثم عملت سبع سنوات في موازاة الدراسة الجامعية وبعد التخرج، لكنني لم أبدأ بالتعريف عن نفسي كصحافية إلا بعد انتقالي إلى لندن. في بالي أن هناك دائمًا جهد يجب بذله قبل اقتناء الصفة، علمًا أن منتحلي الصفات في كل المراحل، سابقًا والآن، لا حصر لهم.
- كل شاعر وشاعرة يتأثّرون في بداياتهم بأسماء وتجارب شعرية، فمن هم آباؤك الشعريون؟
لا أحب كثيرًا فكرة الآباء الشعريين، حتى لو كان البديل الأمهات الشعريات، ففيها كل ما تعمّدت، ولا زلت، الابتعاد عنه. تتناسل من هذه الفكرة التأليه والتماهي، السلطة والمريدية والشللية. وأنا أقرأ من دون الوقوع في الغرام، من دون أن أنسب نفسي لأحد.
قراءاتي في البداية كانت مما وجدته متوفرًا في مكتبة المنزل أو في المكتبة المدرسية، كان ذلك أوفر ماديًا. ولم تكن أصلًا قراءاتي شعرية حصرًا. قرأت في منزلنا جبران خليل جبران، ونزار قباني، ومحمود درويش، وفي المدرسة قليل من السياب ونازك الملائكة، وقصص الأمثال لسلام الراسي.
كنت، لفترة طويلة، قارئة للرواية بالدرجة الأولى، وليس الشعر. أما الآن، فأقرأ الرواية باختيار وعناية، ووجدت راحتي ومتعتي في قراءة الشعر أكثر، وأستمتع جدًا بقراءة بسام حجار وإيتيل عدنان تحديدًا.
- ما الذي أضافه العمل في الإعلام إليك كشاعرة؟ وما الذي أخذه أيضًا؟
لا أعرف ما أضافته الصحافة على وجه التحديد، ولكنني أعرف ربما ما أخذته أكثر: استهلاك دائم لحواسي وإرهاق ذهني، لا سيما خلال تغطية الأحداث الكبرى. وبالتالي تصبح العلاقة مع الوقت، والفهم لأوقات الراحة، وتلبية حاجة الكتابة مختلفة. التعافي مما يعرّضك له العمل في هذا المجال يأخذ وقتًا، والتحايل على ظروفك الخاصة يتطلّب جهدًا، وهذا يعني أنني قد أُبقي حاجتي لكتابة نص أو فكرة ما في داخلي فترة لا بأس بها قبل أن تجد طريقها إلى الصفحة.
الصحافة أو الإعلام أخذا جانبًا، لكن ما أخذني من الشعر لسنوات هو خيبة أمل، وما أعدني إليه هو رغبتي في تخطيها.
- لماذا تأخرتِ في نشر ديوانك الأول؟ وهل تعتقدين أن "يد في بطن الموجة" عمل أول فعلًا؟ بمعنى أن هذا الوقت كان كافيًا لتلافي عثرات التجربة الأولى؟ ما قولك؟
كان يمكن لـ "يد في بطن الموجة" أن يكون العمل الثاني، لا أعرف. لكني سعيدة وفخورة به جدًا، على المستوى الشخصي طبعًا، ولا أتحدث عن قيمته الشعرية. أترك هذا لمن هم من أصحاب الاختصاص أو للقراء عمومًا. أحجمت عن الكتابة لفترة، لأسباب لا مكان لذكرها الآن، ثم عدت للكتابة بشكل مقنن جدًا دون النشر. وفي العامين الماضيين عدت للكتابة بشكل مكثف، ومعها بدأت أفكر في نشر ديواني الأول متخطية الكثير من العوائق.
لذلك سبب سعادتي خاص جدًا. إقدامي على نشر الديوان، والسعي لذلك بشكل فردي من دون يد "الأب الشعري" أو "Guru" للمساعدة أو التقديم في "الوسط الثقافي"، له دلالة مهمة بالنسبة لي. وفي هذا السعي وانفتاحي على التواصل وجدت المعيقين، لكن وجدت أيضًا من هم راغبون في المساندة أو التحفيز من دون معرفة شخصية أو منفعة أو رغبة في تقديم الطاعة الثقافية أو التأليه. وكل ذلك يعنيني كثيرًا، وهو تحوّل كبير بالنسبة لي على المستوى الشخصي، ومرتبط بقراري ألا أترك أحدًا أو شيئًا يحول بيني وبين نزعتي إلى الكتابة عمومًا أو الشعر.
تسألني إن كان هذا الوقت كافيًا لتلافي عثرات التجربة الأولى؟ إن كنت تقصد العثرات على مستوى الجودة الشعرية والنضج، فلا أعرف كيف أجيب على ذلك. ديواني فيه نصوص كتبتها عام 2012 التفت إليها مجدًدا، وفيه نصوص كتبتها حديثا جدًا. شعريتها يحددها القارئ والشاعر والناقد.
نجلاء أبومرعي: أكتب ما يشغلني، ما أشعر أن لي حاجة لقول شيء فيه أو عنه
تقييم ديواني ليس لي، يمكن أن أحدثك طويلًا ومفصلًا عن كيف خضت الأشهر الأخيرة منذ أن قررت النشر إلى أن صدر "يد في بطن الموجة" فعلًا. أفضل أن أقرأ مراجعة أو نقدًا أو رأيًا من الآخرين عن ديواني، على أن أوزنه شعريًا. لدي الجرأة الآن ربما للقول إني أكتب شعرًا، لكن لا أجرؤ على انتحال صفة ناقد.
- تطغى على قصائد مجموعتك مواضيع مثل الفقد والحب والألم. هل من سبب وراء اختيارك الكتابة عنها؟
لا أختار. أكتب ما يشغلني، ما أشعر أن لي حاجة لقول شيء فيه أو عنه. الفقد والذاكرة، القلق، والحزن الأصيل، والحب، وتأثير ذلك على الجسم.
أكتب عما يعنيني، عن تجربتي كامرأة بشكل أساسي. أكتب حياتي، روايتي في الشعر، لا أكتب للتبشير.
- من يقرأ قصائد "يد في بطن الموجة" يشعر بأنك تتعاملين مع الشعر كمساحة لمخاطبة الذات، وأحيانًا للقائها؟ هل هو فعلًا كذلك بالنسبة إليكِ؟
أظن أنه شعور في محله، تذكر، قلت لك بدأت الكتابة من حاجة لمرافقة ذاتي ومحادثتها.
ربما لقناعتي بأن أحدًا ليس مهتمًا في الاستماع أو الإصغاء لمشاكلنا، لذلك حتى حينما نكثر من التشارك ونتبادل الأحاديث عن مشاكلنا اليومية وربما مصاعبنا النفسية، فإننا نفعل ذلك فيما نحاذي القشور. بالنسبة لي، أن نسخر من أوجاعنا في جلسة مع الأصحاب أسهل من أن نفتح قلبنا ليفيض منه كل ما فيه من حزن. ولو عثرت على محبٍّ، ستسعى إلى قناع الخفة درءًا لألمك وحزنك، لأنك لا تريد إنهاكه بأثقالك.
- ما الذي غيّره الشعر في نجلاء أبومرعي؟ وهل تغيّرت نظرتك إليه بعد صدور مجموعتك الأولى "يد في بطن الموجة"؟
ما الذي غيرته الحياة... قلت لك لا أكتب للتبشير، أكتب انشغالاتي وتجربتي وحكايتي مع الحياة. لا أعرف ما الذي سيأتي بعد "يد في بطن الموجة"... ديوان آخر أو كتاب. أعرف عن ماذا أريد أن أكتب، لكن لا أعرف شكله بعد، لكنني أدرك أنه سيتطلب وقتًا وانتظامًا، وهذا ليس متاحًا تمامًا الآن، إنما آمل في وقت قريب، وأشجع نفسي على ابتكار الوقت وقتل التسويف.
- كيف تنظرين إلى شعر زماننا؟
أرى أن هناك رغبة في كتابة الشعر وقراءته لكن قلة مهتمة بالمواكبة، خاصةً لناحية كتابة المراجعات النقدية المهنية، البعيدة عن مراجعات "الصحبة والشخصنة". يمكن لشاعر من المخضرمين في الشعر أن يصدر له نتاج عادي مقارنة بنتاجاته السابقة، بينما تكون هناك تجارب أخرى تستدعي تسليط الضوء عليها. لكن ما نجده هو أن "الصلات" و"الاستحقاقية" معيار أساسي في ذلك. وهذا صحيح أيضًا من ناحية مواكبة دور النشر، التي لا تكف عن القول "الشعر لا يبيع". على بعض الدور أن تكون جادة في تشجيع الشعراء، وألا يقتصر تشجيعها على المقابلات وفي طلبات المنح فقط، في حين تكون ممارساتها على الأرض مختلفة.
هناك دور نشر ناشئة ومهتمة بالشعر، وهناك مكتبات ناشئة أيضًا وظهرت في خضم الأزمة المالية، وهذا أظنه مشجعًا، لكن لا بد من تغيير بعض "القواعد" التي تحكم وتتحكم.