"الشعب يريد إسقاط النظام"، هذه العبارة التي أسقطت جاد الحق جاد الله، وكسرت عظامه خلال مشاهدته لنشرة الأخبار أمام التلفاز حين راح يهتف، فهتفت معه عظامه معلنةً نهاية الخدمة، وعدم قدرتها على حمل جسدٍ عتيق. هو البطل المفترض لرواية "خمارة جبرا" (منشورات المتوسط، 2017) للروائي السوري نبيل الملحم.
في "خمارة جبرا" ، تعيش شخوص الرواية أشكالًا من التأزم في قاع المدينة
ذهبت هذه السقطة بجاد الحق إلى "مشفى المجتهد" في دمشق هناك حيث لا شفاء له، فوجب طرده ونعته بالقمامة. "دحرجي هذه القمامة من هنا" يقولون لزوجته التي تجره مع كرسيه المدولب حتى تفسح المجال لقتلى الحرب وسيارات الإسعاف بالدخول إلى المشفى. كمريض هشاشة عظام لا مكان له في مشفى دمشق الذي يغص بجثث الحرب مجهولة الهوية.
اقرأ/ي أيضًا: نبيل الملحم: الكتابة فعل أقرب إلى الاستحمام
ولد جاد الحق جاد الله في وادي الغزال نتيجة علاقة رجل دين يبارك النساء بنطافه، مع أمه التي قتلها الأخير بعد أن وضعت مولدها تحت ضوء القمر، وعلى الفور، في حقل الخشخاش. ليبقى جاد الحق بين يدي زمردة الفتاة البكر التي طاف صدرها بالحليب أمامه فأرضعته وكانت كأمه.
هذه الحكاية ليست الخيط الأساسي لحياة الشخوص ومسارات الرواية، بل هناك بيئة ثانية ستنمو فيها الحكاية وتنضج، هناك في تكوين خاص من تكوينات مدينة دمشق التي انتقل إليها جاد الحق وزمردة، وتحديدًا في أزقتها وأحيائها العشوائية، بعضها زال بتغير الظروف، وبعضها يحمل نفس الأسماء إلى الآن مع تغييرات ضربت شكل المكان فقط. راح خط السرد أبعد من هذا التوصيف خارقًا الأعماق السحيقة من بنية هذا المجتمع، وتحديدًا في فترة ما بعد الاستقلال، لتصبح العشوائيات بتلك الفترة خلفية زمانية ومكانية لمجمل الأحداث، يلمع فيها اسم فرنسا المومس التي تعمل في كرخانة باب الجابية، وتتمنى عودة الاحتلال لتنعم بحضن ضابط فرنسي، والتي لا يأفل بريقها بموتها منتحرةً من إحدى نوافذ الكرخانة، فهي واحدة من عدة شخصيات مصاغة لتكون جميعها أبطال تلك الأحياء والكرخانات والخمارات وكل تفاصيل تلك الحقبة من تاريخ المدينة، بكل ما تحويها من سياسيين وفقراء وأناس هامشيين تغص بحكاياتهم تلك الأحياء.
كرخانة باب الجابية وكرخانة الروبير لا تبدوان أسماء عابرة، بل هما إحدى المفاصل الأساسية لفهم التركيب الاجتماعي والسياسي لمدينة دمشق، في أشد أزمنتها إشكالية. فترة الانقلابات التي بقي أهل سوريا مبعدين عنها وعن تصور شكل المجتمع فيها قبل وصول البعث للسلطة.
تعيش شخوص الرواية أشكالًا من التأزم في قاع المدينة المتخبطة أساسًا، لينسحب هذا الخط الزمني بين تلك الفترة التي تعج بها المومسات والسكارى وأبطال من حيّ صفيح هامشي، يدعى حي الصبارة وفيه خمارة جبرا، التي يمكنك أن تطل من نافذتها لترى تفاصيل حياة هؤلاء الهامشيين بأحلامهم وذكرياتهم وظروفهم، وكل النتائج التي ستقدمها الخمارة لهم. إلى خط آخر أكثر عصرنة وتأزم، هي لحظة الحرب التي يشهد عليها جاد الحق بالهتاف وهشاشة العظام.
في "خمارة جبرا"، الجميع مؤثر في شكل التغيير السوري ومتأثر به
لا بطل واحد في الرواية، فالجميع هنا مؤثر في شكل التغيير ومتأثر به، كل أشكال التغيير التي تعج بها الرواية، إغلاق الكرخانة مرورًا بفترة الوحدة السورية المصرية، وتفاصيل يحملها عزرا اليهودي الذي يحلم بالذهاب إلى أرض الميعاد، عمل زمردة في الكرخانة زبائن الكرخانة، وشخصية جبرا التي تصب عندها مآلات السرد، ولكن يبقى جاد الحق حاملًا كل هذا الإرث، إرث جيله كما يقول متخوفًا من موته. "إن مت ستضيع سلالتي الجينية" هو الذي لم يأت من رحم حي وقد رضع من ثدي بكر، وبقي حتى موته الذي تمنى أن يكون تحت نافذة آنا الفتاة اليهودية، التي أيقن بأنها الحقيقة الوحيدة من حياته كلها. ليكون بلحظات موته أو تيبسه في باحة مشفى المجتهد مع زوجته ياسمينة ينتظران عودة ابنيهما مع تاكسي يقلهما إلى البيت.
اقرأ/ي أيضًا: الشيطان مرّ بموسكو
"هو الذي لم يكن قد اكتشف بعد ما هي حقيقة الموت أهو إهانة يواجهها البشري أم مكأفاة نهاية خدمة؟".
لم تمسك عظام جاد الحق جاد الله بعضها البعض رغم مراهم الترميم، كما لم يمسك هو بالحياة كما يجب، حين بات ينتقل من أجواء الكرخانات إلى كاتب قصائد عند الشاعرة الأرستقراطية جورجيت، وكاتب مقالات عند مسؤولين في الحزب، وحامل لحقائبهم أحيان كثيرة، وأخيرًا رجلًا بحدبة على ظهره.
ضمن قوالب سردية متعددة، راح يتذكر، من على كرسيه المدولب، كل أدواره الاجتماعية تلك، إلى جانب تأثيرات سياسية أرخت بثقلها على أجواء تلك الأحياء وأهلها. كلحظة موت الرئيس السابق وتسلم ابنه، عبر ومضات ذهنية بدت واضحة بأسلوب الروي وموضوعة، ضمن قوالب لغوية عنيفة وشديدة الأثر تختزل بشدتها هذه أعوامًا، حين لم تكن دمشق عفيفة كما تكويناتها من البشر المتأثرين والمتضررين من نتاجٍ سياسي واجتماعي بقي متأومًا حتى اليوم. تمر عبر كل هذا سلسلة التذكر التي رافقت جاد الحق منذ السقوط، وحتى البحث المضني عن سيارة التاكسي التي ستقلهم إلى البيت.
في روايته السادسة يبدو نبيل الملحم ممسكًا باللحظة الراهنة، وما يسكنها من خراب وتحطيم للبنية الاجتماعية السورية، والتي تفرض تأمل واستذكار لما سبقها من تراكم لحظات وتواريخ أدت إليها، فكانت روايته بمثابة استرجاع لتاريخ شريحة معينة من الناس في دمشق، خلال محاولة تشكيل بداية دولة ما بعد استقلالها من الاحتلال، فكانت تشبه هشاشة عظام أصغر مخلوق فيها يحاول العيش.
اقرأ/ي أيضًا: