كتب الناقد السوري يزن الحاج: أنه إذا جاز لنا اختزال السرد الأفريقي الأسود في القرن الأخير في ثلاثة أسماء، فيمكن لنا حسم خياراتنا بالنيجريين وولي سوينكا وتشنوا أتشيبي، والكيني نغوغي وا ثيونغو (جريدة الأخبار 15 شباط 2020).
حينما دفع الكاتب نور الدين فارح روايته الأولى إلى النشر، لم يصدّق الناشر أنه يقرأ كتاب رجل فطلب منه إرسال صورة شخصيه ليتحقق منه
ربما هذا الرأي هو السائد تقريبًا عن الرواية الأفريقية الموسومة بالعالمية، إذا غضضنا الطرف عن تصنيفات عوالمها الفرنكوفونية والانجلوفونية. إلا أن هنالك اسمًا آخر لا يمكن إغفاله عند الحديث عن الرواية الأفريقية المكتوبة بالإنجليزية، هو الصومالي نور الدين فارح (1945).
اقرأ/ي أيضًا: رواية "الغرق" لحمور زيادة.. بشر في مهب العبودية والقسوة
هل يكشف الرأي السالف عن قلة شعبية لدى فارح في العالم العربي مقارنة بالأسماء الثلاثة الأخرى؟ صحيح أن بعض أعماله مترجمة إلى العربية، لكن لا يمكننا القطع عن قلة الشعبية هنا، فجميع الأسماء الأربعة ليس لديهم حضور يذكر في الترجمة إلى العربية. وهو ما يدفعنا لتقصّي أسباب أخرى أدَّتْ لضعف حضور اسم فارح عربيًا، وهو ما يبدو متعلقًا بتلقي فارح في أفريقيا نفسها.
يتحدث فارح في أحد حواراته الحديثة عن غياب اسمه في التدريس الأكاديمي للأدب الأفريقي إلا في المستويات الجامعية العليا، يعزو ذلك إلى صعوبة تصنيفه في ضمن الرواية الأفريقية التي يقدمها كل من أتشيبي ونغوغي، يحسب ما نستشفّ من إجابته، يلعب موقع اللغة الإنجليزية في شبكة لغاته المتعددة دورًا في تحديد موقع أدبه في داخل القارة، فمثلًا يتحدث نغوغو الكيكويوية والإنجليزية، وأتشيبي الايغبو والإنجليزية، وشوينكا الإنجليزية واليوربية، وتعد الإنجليزية لغات رسمية في بلدانهم؛ كينيا ونيجريا، بينما الأمر متخلفٌ لدى فارح، فهويته اللغوية تتصف بالتركيب مقارنة مع مجايليه أولئك؛ تأتي الإنجليزية المرتبة الرابعة من لغاته، بعد الصومالية والعربية والأمهرية. فضلًا على أن إقامته الطويل في المنفى جعلت سرده أكثر كوسمبولتيًا من الأسماء الثلاثة الأخرى. يشير فارح في نفس الحوار إلى أن مقروئيته تصبح أفضل في شمال القارة العربي مقارنة بغربها. لعل السبب يرجع -وهذا ما يعرفه قارئ فارح جيدًا- إلى تنوع مصادر كتاباته، وقربها من الفضاء العربي، فيحضر عتبات أجزاء روايته المكتوبة بالإنجليزية، عبارات من ألف ليلة وليلة، وفقرات لابن عربي، واقتباسات من ذلك الشاعر العربي القديم أو ذاك، وأمثال صومالية وإفريقية إلى جوانب دانتي وبورخيس وآخرين. حسبما يقول فارح، من يصنّف أدب فارح يجد هذه الخلفيات الثقافية عدم اتساقه مع الأدب الأفريقي المعهود، وهو ما جعل أعماله تدرّس في أقسام الأديان أو الفلسفة في بعض الجامعات الأفريقية بدلًا من أقسام الأدب. وبدوره يتأثر التلقي العربي من هذه الحيرة التي لا تعرف أين تضع أعمال فارح. ربما لأصحبت الصورة مختلفة لو حصل على جائزة نوبل، الذي يعد من مترشحيها الدائمين.
تعد رواية "من ضلع أعوج" باكورة أعمال فارح الروائية، وصدرت أول مرة في عام 1968، وقتها كان في الثانية والعشرين من عمره طالبًا في الفلسفة في الهند. واعتبرها الكثير من النقاد "مانفستو نسوي"، بما يحمله من أفكار تفضح السلطة الأبوية، وأطلق عليه آخرون مثل كرسيتين بيترسون أول كاتب نسوي أفريقي، بل وصل الأمر إلى الحد الذي دفع ناشره لطلب إرسال صورة شخصيه لأنه لم يصدق أن الكاتب رجل.
الكثير من النقاد اعتبروا رواية "من ضلع أعوج" لنور الدين فارح أقرب ما تكون إلى "مانفستو نسوي"
إلا أن المثير أن فارح لا يقبل في حواراته وصفه بالنسوية. صحيح أن الرواية تزامنت مع إعادة فرز للخطاب المحلي، بعد نشوء دولة ما بعد الاستعمار والأفكار الرومانسية التي رافقتها، ويمكن قراءة هذا الموقف، بالتوازي مع أعمال فلورا نوابا، وهي أول كاتبة أفريقية تصدر عملًا بالإنجليزية عام 1966بعنوان Efuru، ومع أنها رائدة كتابة النساء الأفريقيات وكتبت أدبًا ذكيًا عن النساء في عالم "يسيطر عليه الرجال" حسبما وصفته بكلماتها، وكانت مدفوعة برغبة ملحة في تغيير واقع امتلاك الرجال مزايا اجتماعية واقتصادية وسياسية لمجرد كونهم رجالًا. إلا أنها لم تصف نفسها بالنسوية، ولعل رفضها يرجع كما تقول، تشيماندا أديتشي: أن النسوية كلمة تعد ممثلة أكثر لمخاوف نساء الطبقة الوسطى البيضاوات، بقدر ما هي ممثلة بنفس مخاوف من يوصفن بنساء العالم الثالث.
اقرأ/ي أيضًا: الأدب الأفريقي ومسألة اللغة
في بداية هذا العام عقد في مدينة نيروبي مناسبة لذكرى مرور خمسين عامًا من صدور الرواية بحضور الكاتب، وشهد نقاشًا حول أفكارها والجدل المتصل حول صحة تصنيفها ضمن الرواية النسوية من عدمه، وصرح الكاتب أنه سينتج في هذا العام فيلمًا سينمائيًا عن الرواية، بما أنه لا شيء ربما قد تغير من وضع المرأة الصومالية التي تعالجها الرواية مع مرور نصف قرن عليها، إن لم تزدد سوءًا إثر الفوضى العارمة التي أدخلت البلاد في سلسلة من الكوارث التي ما زالت مستمرة، وهي ظروف كالمتعاد، تدفع النساء ثمنها مضاعفًا.
تدور الرواية حول فتاة ريفية تدعي "عيبلا" في الثامنة عشر من عمرها، يخطط لها جدها تزوجيها من رجل بعمره، ثم تشرع عيبلا خوض نضال ضد السلطة الأبوية التي تحاصرها وتحاصر جسدها وتعتبرها كملكيّة عامة للقبيلة. ستقرر عيبلا الهرب من الزواج المخطط لها إلى مدينة "بلدويني"، حيث تلجأ إلى ابن عمٍ لها في المدينة، لا تعرف أكثر من اسمه، لتجده يعمل كمهرّب، وهو لا يتردد باستغلالها وتوريطها في أعماله غير المشروعة، لكن ذات يوم ستمسكه الشرطة، ومن ثم تضعه في السجن، وسيلقي اللائمة على عيبلا، كونها جلبت النحس معها. سيتفاوض ابن عمها لإفراجه من السجن مع أحد شركائه مقابل أن يعطيه عيبلا كزوجة. مرة أخرى تقع عيبلا في شراك المجتمع الأبوي الذي يعاملها كسلعة، تتساءل عن ماذا تختلف عن قطيع البقر الموجود في حظيرة ابن عمها؟
في الأثناء، ستتعرف عيبلا على جارتها الأرملة، والتي يتم تقديمها بالمرأة القوية المستقلة، فلديها أعمالها الخاصة، ستنجح بترتيب زواج آخر لعيبلا، كي تتمكن من الهرب إلى مدينة مقديشو. لكن ما أن تصل هناك حتى تكتشف عنف زوجها الجديد، يوسعها ضربًا ويغتصبها متى ما شاء، تفكر بالهرب مجددًا، لكن لا تعرف إلى أين تهرب هذه المرة.
لا تكمن أهمية "من ضلع أعوج" كونها أول رواية صومالية مكتوبة بالإنجليزية وحسب، بل هي أول رواية صومالية على الإطلاق
يتغير منحى السرد بعد هروبها إلى المدينة، فقد هيأت ضروب التشرد الذي عانته وانفصالها عن كيان المجتمع إلى بروز فردانيتها في المدينة، سيتحول أنينها الخافت من عذابات الأبوية إلى صرخات احتجاج قوية ومسموعة. سيصير لها صوت وشخصية تخرجها من هلامية القطع تجعلها مشاركة في صنع قدرها. تسعى إلى تحقيق ذاتها لا أن يتم تعريفها بدور الابنة أو الزوجة.
تقرأ فاطمة مولَا في رسالة دكتوراه فلسفية وضعتها عن الفردانية في روايات فارح (جامعة كيب تاون 2009) سرد فارح على أنه انتصار للمدينة على حساب الريف المرتبط بالعادات والتقاليد التي تُشيّئ المرأة، لكن ما يستحق الانتباه هو الطريقة المثيرة التي يتكأ عليها السرد على خاصية الرواية التشكيلية، لكي يبرز تناقضات المدينة الما بعد استعمارية، عبر التركيز على النضوج الشخصي والفكري التدريجي الذي تحققه شخصية عيبلا.
اقرأ/ي أيضًا: رينيه ماران.. أولى الصرخات الأفريقية في وجه الاستعمار
في أول الأمر ستصطدم عيبلا مع واقع المدينة الجديد بالنسبة لها، يحدث ذلك عندما ترى سيارة لأول مرة، وعند سماعها مفردات مثل الشرطة والحكومة وتظن أنها أسماء قبائل جديدة، وسيطوّح بها العجب عند سماعها للراديو كيف أن شخصًا كاملًا يقبع في داخل هذا الجهاز الصغير. على الرغم من هذه النوع من التفكير البدائي في وعي الحداثة، تئول عيبلا إلى شخصية متمردة على النظام الاجتماعي، وتقيم في خارج المكان اجتماعيًا. لا حوارات في السرد، لأنه لا أحد يفهمها، كل أفكارها في السرد تأخذ شكلًا مونولوجيًا دراميًا.
في المدينة، تبدأ عيبلا في تقليب علاقات القوة في المجتمع الأبوي الذي يعتبر المرأة سلعة يملكها الرجل، كأي سلعٍ أخرى تعود إليه، بعد فترة سيتم ابتعاث عول، زوجها الجديد، للدراسة إلى إيطاليا. لكن في الأثناء، يحصل ما لم يكن في الحسبان، ستعرف خيانة زوجها لها مع فتاة إيطالية عن طريق صديقٍ له. عند هذا، ستبدأ عيبلا، بالانتقام من السلطة الأبوية بطريقتها، تتحول من موجب إلى سالب، ستتزوج من رجلٍ آخر، رغم استمرار زواجها من "عول". وبذلك تكون قد رسمت خطوة على طريق تمريغ أنف النظام الاجتماعي بالتراب. سيعترف لها زوجها الجديد ذات يوم، بأنه متزوج من امرأة أخرى، لكنها سترد ببساطة بأنها هي أيضًا متزوجة من آخر، سيشعر بالغضب والمهانة، وتخوض معه حوارًا تسخر من قيمه الذكورية التي جعلته يقول بأنه متزوج من امرأتين مرتاح البال، لكن لا يقبل نفس الأمر منها. ويمكننا قراءة هذا المشهد كلقبٍ ساخر لفكرة تعدد زواج الرجل في المنظومة الأبوية.
لقد كان الهرب من الريف حين أراد جدها تزويجها فعل مقاومة، وتمكنت من تقويض سردية الأبوية المتصرفة بجسدها عندما حظرت جسدها من هذا الزواج. وتنجح في المرة الثانية، بتحويل ذاتها إلى ذات فاعلة سالبة، لها إرادة، عكس ما تريد منها القبيلة، عبر اختزالها كجسد ينتمي إلى الحيز العام للقبيلة. ستوقع الرجال بشراكها في هذه المرة، لن تكتفي بذلك، بل ستمضي في ضروب التحرر من كل ما هو قديم، بما فيها منظومة الدين التي يستند عليها النظام الأبوي، والتي تصور المرأة مخلوقة لمتعة الرجل، فهو نبيها وإلهها الثاني. وتردد في مسامعها بأنها خلقت من ضلع الرجل، وترى المرأة مرهونة بتلبية احتياجاته.
عندما سئل نور الدين فارح: "لماذا تكتب بلغة أجنبية؟" أنه بدأ الكتابة في وقتٍ لم تكن اللغة الصومالية مكتوبة بشكل رسمي
لا تكمن أهمية هذه الرواية كونها أول رواية صومالية مكتوبة بالإنجليزية فحسب، بل هي أول رواية صومالية على الإطلاق، وأثرت على السرد الروائي الصومال والأفريقي عمومًا خلال النصف القرن الأخير. والجدير بالذكر أن اللغة الصومالية لم تكن مدونة بشكل رسمي وقت كتابة الرواية، وإلى الآن يجيب فارح في حواراته مع الصحافة الصومالية عندما تطرح عليه سؤالها الإتهامي المفضل؛ "لماذا تكتب بلغة أجنبية؟" أنه بدأ الكتابة في وقتٍ لم تكن اللغة الصومالية مكتوبة بشكل رسمي.
اقرأ/ي أيضًا: البحث عن أفريقيا
قد يجد رواد النظرية الثقافية في أعماله مادة دسمة للنقد الثقافي، ليس في سياق اللغة الاستعمارية فقط، بل كذلك عن تصوراته عن الشرق وتعميماته ضد الإسلام، وسياقات القراءة في بلدان المتروبول، وهي حالة قريبة من الكاتب سلمان رشدي، ولا عجب أن يكيلوا لبعضهم المدائح في المناسبات العامة. فحين يكتب فارح عن صومال متخيل بالإنجليزية، تنشأ هنا علاقات أدبية ورمزية عن تمثيل الصومال، وإعطاء صوت للمرأة الأفريقية، وللصومال وربما القارة الأفريقية، ومن ورائه العالم المستعمَر العاجز عن التعبير عن تجاربه، إلا أن يصوغ لهم فارح، المبدع، لغة مناسبة، ويمنحهم "صوتًا أدبيًّا مسموعًا" كما تحب أن تلقّبه الصحافة الأجنبية.
اقرأ/ي أيضًا: