أزمة دبلوماسية جديدة بين الخرطوم والقاهرة، فجّرها المسلسل التلفزيوني "أبو عمر المصري" الذي يُعرض حاليًا على بعض الفضائيات العربية. وفي الوقت الذي هدأت فيه نسبيًا موجة التصعيد الإعلامي المتبادل منذ سنوات بين البلدين، جاء مسلسل "أبو عمر المصري" ليثير عاصفة أخرى بين مصر والسودان، وليبين هشاشة العلاقات السياسية بين البلدين، لدرجة يمكن أن يجرح خاطرها عمل درامي.
تسبب مسلسل "أبو عمر المصري" في أزمة دبلوماسية بين مصر والسودان، بعد أن وردت فيه أسماء مناطق سودانية باعتبارها بؤرًا إرهابية
وبعد مرور نحو ثلاثة حلقات فقط من مسلسل "أبو عمر المصري" الذي يقوم ببطولته الممثل أحمد عز، وردت سيرة مناطق سودانية بالاسم باعتبارها بؤرًا لإعداد الارهابيين، ما أثار موجة استنكار عالية على الصعيد السياسي والإعلامي. ورغم أن السياق في مسلسل "أبو عمر المصري" لم يحدد الفترة الزمنية التي جرت فيها الأحداث، إلى أن محاولة دمغ السودان بالإرهاب على ما يبدو تثير حساسية حكومة الرئيس عمر البشير، لا سيما وأن السودان لا يزال عالقاً في التصنيف الأمريكي للدول الراعية للإرهاب، ولم تفلح كل الجهود السياسية والدبلوماسية في تحريره من تلك القائمة السوداء.
اقرأ/ي أيضًا: رمضان الذي أصبح عنيفًا ومبتذلًا
وتتقصى الأحداث في مسلسل "أبو عمر المصري" سيرة المحامي المصري فخر الدين "أحمد عز" والذي أسس هو ومجموعة من المحامين تنظيمًا سلميًا سعى لإيجاد حلول لمشاكل وقضايا المواطنين البسطاء، بعيدًا عن مافيا المحاماة وأسعارهم المبالغ فيها، إلا أن هذا التنظيم سرعان ما يثير غضب جهاز أمني لأنه لم يجد وسيلة قانونية توقف نشاط هؤلاء المحامين، فيلجأ إلى وسائل آخرى خارج إطار القانون، من خلال تصفية أعضاء التنظيم، وينجو فخر الدين من محاولة اغتياله، فيهرب إلى فرنسا، ويقرر بعدها بسنوات السفر بصحبة طفله للعيش في السودان، وهناك يتحول إلى كادر مهم من كوادر إحدى الجماعات الإسلامية المسلحة.
من جهتها أصدرت وزارة الخارجية السودانية بيانًا أعربت فيه عن استيائها من مسلسل "أبو عمر المصري". وقال البيان إن المسلسل "رُوّج له بصورة عكست إصرار البعض على اختلاق وتكريس صورة نمطية سلبية، تلصق تهمة الإرهاب ببعض المصريين المقيمين أو الزائرين للسودان".
وأضاف البيان الذي ذيل بتوقيع الناطق باسم الخارجية، السفير قريب الله الخضر، إن مسلسل "أبو عمر المصري" "يتنافى مع واقع التواصل الكبير بين البلدين، ولا يعدو أن يكون محاولة بائسة وعبثية لضرب الثقة وشل التواصل بين الشعبين الشقيقين"، نافيًا تورط أي مواطن مصري مقيم بالسودان في أي أعمال إرهابية.
كما أن الخارجية استدعت السفير المصري في الخرطوم، وسلمته مذكرة احتجاج على بث مسلسل "أبو عمر المصري"، واعتبرت أن القائمين على مسلسل "أبو عمر المصري" قد سعوا لإيهام المتابعين بأن بعض أجزاء السودان كانت مسرحًا لبعض أحداثه، واستخدمت العديد من الوسائل لهذا الغرض، كلوحات السيارات التي تعد رمزًا سياديًا لا يجوز التعامل به إلا بعد الحصول على موافقة من السلطات السودانية المختصة، وفقًا للخارجية السودانية.
أصدرت وزارة الخارجية السودانية بيانًا عبّرت فيه عن استيائها من "الصورة النمطية السلبية" التي عكسها مسلسل أبو عمر المصري عن السودان
ورغم أن فريق العمل في مسلسل "أبو عمر المصري" لم يتمكن بالفعل من الحصول على تأشيرة دخول إلى السودان وتصوير المشاهد في تلك المناطق المشار إليها، إلا أن إلصاق اسم السودان أثار حالة من الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي، وبدا للكثيرين أن السياق الذي يدور فيه مسلسل "أبو عمر المصري" يتسق مع اتهامات بذلها إعلام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بدعم النظام الحاكم في الخرطوم للجماعات الإسلامية، وفتح معسكرات لتدريب كوادر الإخوان المسلمين بحسب الزعم، وهي الاتهامات التي رفضتها الحكومة السودانية بصورة قاطعة.
اقرأ/ي أيضًا: دراما رمضان المصرية والحرب على "الإرهاب".. بسيف النظام ورماحه!
الكاتب والصحفي جمال علي حسن، استبعد بالمرة أن يتم إنتاج وبث مسلسل مصري هذه الأيام، يتناول قضية الإرهاب، ولا يحمل أجندات وتوجهات ورسائل المخابرات المصرية. وقال جمال لـ"ألترا صوت"، إنه لا يمكن التقليل من أهمية وحساسية محتوى مسلسل أبو عمر المصري، الذي أثارت حلقات أولى منه استياء السودانيين على المستوى الرسمي والشعبي، مضيفًا: "مصر على ما يبدو مهيئة نفسها لاحتجاج سوداني قابلته بكم هائل من حمولات المياه الباردة لتخفيض درجة الحرارة في لعبة صبيانية سخيفة اسمها الصفع والتقبيل".
يحاول جمال تفسير طريقة التحايل على اسم السودان في الحلقات الأولى من مسلسل "أبو عمر المصري"، وإيراد أسماء مناطق سودانية كمعسكرت للجماعات المتشددة، بأنه مقصود به التلاعب بالعقول، مضيفًا أن النظام الحاكم في مصر "لا يزال يصر على تنفيذ أجندته بالإبقاء على صورة مختلقة للسودان الإرهابي، وهذا المسلسل شكل من أشكال استخدام القوة الناعمة في تعزيز شكوك العالم في السودان، كما أن حذف مشاهد من المسلسل بعد بثها وتداولها لا يزيل الضرر تمامًا، فتلك المشاهد تم عرضها والرسالة المقصودة تم إرسالها وتحميلها في الإسفير وحدث ما حدث"، على حد قوله.
من جانبه سخر الكاتب والروائي السوداني فايز السليك من بيان وزارة الخارجية السودانية بخصوص مسلسل "أبو عمر المصري"، وقال إنها "صنعت حملة دعائية لصالح العمل"، ونبهته شخصيًا لمتابعة مسلسل "أبو عمر المصري" الذي "يتسم بالتشويق"، على حد وصفه. وأضاف السليك في تدوينة له على صفحته بفيسبوك: "لم أندهش كثيرًا، فهذا النظام يسعى لتكميم الأفواه حتى خارج الحدود، وللمفارقة فإن القصة الخيالية استندت على وقائع تاريخية معروفة حدثت في التسعينا، حين كان كارلوس وأسامة بن لادن والجماعات الأخرى تنطلق من السودان".
لم تعلق وزارة الخارجية المصرية على بيان الخارجية السودانية، ما قد يعني أن مصر لا تريد عودة العلاقات مع السودان إلى التعكير مرة أخرة
ورغم الهجمة السودانية الرسمية الرافضة لأي إشارة تحمل إساءة للسودان، عن طريق برامج تلفزيونية أو أعمال درامية، إلا أن الخارجية المصرية لم تعلق على البيان، واكتفت بتعقيب رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، الكاتب الصحفي مكرم محمد أحمد، وبيان شبكة قنوات "ON"؛ ما يعني أن القاهرة لا تريد أن تخوض في سجال يعيد المياه إلى مجاريها العكرة الأولى.
اقرأ/ي أيضًا:
مصر والسودان.. آفاق النزاع الكبير حول كيفية التعامل مع سد النهضة
القصة الكاملة للحرب الكلامية بين مصر والسودان.. ما علاقتها بليبيا والخليج؟