في ثلاثينات القرن الماضي، كان الطفل دنيس جونسون ديفز (1922 - 2017) مجرد طالب فاشل يحتل المرتبة الثالثة والعشرين في صف يضم خمسة وعشرين طالبًا، وبسبب عدم السماح له بلعب الإسكواش في ملعب المدرسة أخرجه والده منها، وحينما سأله عما يود أن يفعله في حياته كانت إجابته بعفوية "أريد أن أدرس اللغة العربية".
لعب دنيس جونسون ديفز دورًا هامًا في تلك الفترة المبكرة من القرن الماضي في تعريف القارئ الغربي بالأدب العربي الحديث
هكذا بدأت رحلة دنيس جونسون ديفز مع اللغة العربية من جامعة كامبريدج ثم القاهرة وعدد من العواصم العربية المختلفة، ليصبح أهم مترجم للأدب العربي في القرن العشرين، حيث لعب دورًا هامًا في تلك الفترة المبكرة من القرن الماضي في تعريف القارئ الغربي بالأدب العربي الحديث، من خلال ترجمته لباقة من الأعمال الأدبية المميزة لأسماء عربية راسخة بدءًا من محمود تيمور ونجيب محفوظ وحتى الطيب صالح ويحيى الطاهر عبد الله.
اقرأ/ي أيضًا: رحيل دينِس جونسون ديفِز.. من يترجم العرب بعد اليوم؟
وعبر 141 صفحة يصحبنا دنيس جونسون ديفز في كتابه "ذكريات في الترجمة" ليسرد مقتطفات من تجربته تلك التي امتدت لأكثر من 60 عامًا، والتي ربما تكون استعادتها مهمة بعد رحليه عن عالمنا في أيار/مايو الماضي، في ظل الأسئلة الحائمة حول ما يترجم من أدبنا العربي إلى اللغات الأجنبية والسعي الحثيث والمستغرب من أسماء لا وزن لها أدبيًا لتسويق نفسها باعتبارها واجهة تصلح للترجمة.
تعرّف دنيس جونسون ديفز على اللغة العربية في فترة مبكرة من طفولته، حيث تنقّل من السودان إلى وادي حلفا إلى كينيا بسبب عمل والده، لكن ما اكتسبه من معرفة بالعربية في ذلك الوقت ضاع منه في السنوات التي قضاها في المدرسة الداخلية بإنجلترا، قبل أن يعيد بناء علاقته بالعربية في مدرسة اللغات الشرقية على أيدي مجموعة من المستشرقين. وكانت دراسة العربية في ذلك الوقت تتطلب دراسة الفارسية والعبرية معًا، ولكن العائق الأكبر الذي اصطدم به ديفز هو المنهج السقيم الذي يدرّسه مستعربون لم يسبق لهم أن عاشوا أو زاروا أي مكان في العالم العربي، حيث كان المنهج على حد وصفه "مشوشًا ويبعث على الضجر، مكونًا من أطنان من القصائد الشعرية الكلاسيكية".
لكن الحياة في لندن جعلته يثق تمامًا أنه لن يتمكن من العيش في هذه البلاد، حيث قضى دنيس جونسون ديفز سنوات الحرب العالمية الثانية محشورًا في عمل روتيني داخل القسم العربي التابع لهيئة الإذاعة البريطانية، لكن ما أن وضعت الحرب أوزارها حتى انتقل إلى القاهرة ليعمل كمدرس لترجمة اللغة العربية في المعهد البريطاني. في تلك الفترة، كان يمكن لحياة ديفز في القاهرة أن تمضي بسلام يليق بإنجليزي يعيش في الفقاعة الخاصة بأجانب القاهرة بجانب رفاقه من البرجوازية المصرية، لكنه اختار طريقًا آخر أكثر تفاعلًا مع المجتمع والثقافة التي اختار أن يعيش فيها: واظب دنيس جونسون ديفز باستمرار على زيارة المسرح، والتعرف عن قرب على الثقافة المصرية، وربطته علاقة وثيقة بفؤاد منيب ابن الممثلة ماري منيب. وعلى ما يبدو فقد كانت المقالات النقدية التي يكتبها عن مسرحيات نجيب الريحاني تثير اعتراضات السفارة البريطانية والبوليس المصري، ولهذا طُرد من وظيفته في المعهد البريطاني لينتقل لتدريس اللغة الإنجليزية في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًا) ليزداد اهتمامه أكثر بالثقافة والأدب العربي، وليبدأ خطوات فعلية في تحقيق حلمه بالترجمة، حيث بدأ في تلك الفترة العمل على ترجمة كتاب يضم قصصًا قصيرة للكاتب المصري محمود تيمور.
حين قدم ديفز "يوميات نائب في الأرياف" في الإذاعة البريطانية ثار غضب الملك فاروق
توزّع وقت دنيس جونسون ديفز في تلك الفترة ما بين التدريس وترجمة قصص تيمور واحتساء القهوة معه في مقهى جروبي بميدان طلعت حرب بوسط القاهرة، ليصدر الكتاب بمقدمة قصيرة لعبد الرحمن باشا عزام أمين عام جامعة الدول العربية، ليصبح أول مجلد يضم قصصًا عربية قصيرة ينشر في ترجمة إنجليزية. وقد تحمّل دنيس جونسون ديفز تكلفة الطباعة كاملة، لكنه حين ذهب لإهداء بعض النسخ لتيمور سأله عن تكلفة الطباعة، ثم حرّر شيكًا له بإجمالي المبلغ.
اقرأ/ي أيضًا: أسرار دكتاتورية يوسف إدريس
ويسرد دنيس جونسون ديفز في كتابه، المطبوع في الهند، بترجمة كامل يوسف حسين وتقديم نجيب محفوظ، شذرات متفرقة عن علاقته بالكتاب العرب والمصريين والمصاعب التي واجهته في ترجمة الأدب العربي، في زمن لم يكن لدى دور النشر البريطانية أي اهتمام بترجمة الأدب العربي أو نشره. في البداية اعتمد ديفز على ترجماته في عدد من المجلات الإنجليزية التي تصدر في مصر أو في بريطانيا، وبعد إصداره كتاب تيمور فكّر في ترجمة أحد أعمال الكتاب الكبار ممن يمكن لاسمهم وشهرتهم ضمان النشر، ووقع اختياره على رواية "يوميات نائب في الأرياف" لتوفيق الحكيم، لكنه حينما صارح الحكيم برغبته، أبلغه الأخير بأنه خلال الحرب العالمية الثانية أعطى موافقته لترجمة الكتاب لأبا إيبان، الذي كان في ذلك الوقت ضابطًا في الاستخبارات البريطانية وأصبح بعد ذلك وزيرًا لخارجية إسرائيل. رغم ذلك، أصرّ دنيس جونسون ديفز على تقديم الرواية بصوته إلى جمهور الإذاعة، وهو الأمر الذي أثار غضب الملك فاروق وجعله يفكر في ترحيله من مصر نهائيًا، لأنه "يشوّه صورة مصر" بذكره أن اليوميات صوّرت حياة الفقر الذي عاش في ظلّه الكثير من الفلاحين المصريين، وهو الاتهام الذي سيظل رائجًا ومجانيًا بعد ذلك لعقود ممتدة كلما تراءى للسلطة ومحبيها إشهاره في وجه المبدعين والفنانين.
أما نجيب محفوظ فقد تعرف عليه دنيس جونسون ديفز للمرة الأولى في الأربعينات وتحمّس لترجمة أعماله، حتى إنه حينما قرأ "زقاق المدق" شعر أنه لم يكتب مثلها في الأدب العربي، لكن محاولاته لترجمة محفوظ لأي دار نشر بريطانية انتهت بالفشل وتطلّب الأمر الانتظار حتى الثمانينات من القرن العشرين ليوقّع أديب نوبل عقدًا مع مارك لينز مدير النشر في الجامعة الأمريكية بالقاهرة لتحصل الجامعة على حقوق ترجمة أعماله إلى الإنجليزية وكافة اللغات الأخرى. ويحكي دنيس جونسون ديفز تفاصيل شيقة عن فوز محفوظ بنوبل، ففي الثمانينات تلقى ديفز اتصالًا من أحد أصدقائه يخبره فيه أن زوجة السفير الفرنسي لدى تونس، وهي سويدية، موجودة في القاهرة وترغب في مقابلته، وحينما قابلها أخبرته أن لجنة نوبل تبحث إمكانية فوز كاتب عربي بها، وكان معها قائمة بأسماء المرشحين، ومنهم أدونيس ويوسف إدريس والطيب صالح، وأثناء النقاش أوضح لها دنيس جونسون ديفز أن شعر أدونيس بعيد تمامًا عن مدارك الكثير من القراء، ويوسف إدريس لم تكن هناك أعمال مترجمة له إلى الإنجليزية أو الفرنسية، وهما اللغتان اللتان يعرفهما أعضاء لجنة نوبل، أما الطيب صالح فرغم أن دنيس جونسون ديفز كان مترجمه وصديقه إلا أن إنتاجه القليل استبعده من القائمة، وهكذا بدا واضحًا أثناء تلك الجلسة أن نجيب محفوظ هو المرشح الأفضل للجائزة.
امتدت صداقات دنيس جونسون ديفز مع الكتاب المصريين من كل الأجيال، لكن من بين كل من عرفهم كانت علاقته بيحيى حقي صداقة قوية امتدت لسنوات، شهدت تشجيعًا ودعمًا مستمرًا من جانب الأستاذ للمترجم الشغوف بالأدب العربي. أحد الأمثلة على تلك العلاقة الطيبة التي جمعت حقي بديفز ما يورده الأخير في كتابه عن أنه كان يحلم بتقديم مجلد يضم مختارات مترجمة من القصص العربية، وبعد الانتهاء من اختيار وترجمة القصص، لم يجد له ناشرًا في إنجلترا، لكن تصادف في ذلك الوقت أن يحيى حقي صاحب العلاقات المتعددة كان لديه صديق يعمل في دار نشر جامعة أوكسفود، ومن خلال وساطة حقي قبلت جامعة أوكسفورد نشر المجلد القصصي الذي كان تقريبًا أول كتاب مترجم للإنجليزية يضم مختارات من الأدب العربي الحديث.
امتدت صداقات ديفز مع الكتاب المصريين من كل الأجيال، لكن من بين كل من عرفهم كانت علاقته بيحيى حقي صداقة قوية امتدت لسنوات
بعد حركة "الضباط الأحرار" في تموز/يوليو 1952، انتقل دنيس جونسون ديفز من القاهرة إلى بغداد ثم بيروت حتى عاد مرة ثانية إلى لندن وقد أصبح صديقًا لعدد كبير من الكتاب العرب الذين يزورونها باستمرار، بداية من جبرا إبراهيم جبرا وتوفيق صايغ ويوسف الخال وحتى يوسف إدريس، والذي أبلغه ذات مرة بشكل جدي أنه قد ارتكب غلطة كبيرة بعدم تكريس وقته لترجمة أعماله. وكان إدريس، الساعي دومًا لإثبات جدارته، دائم الشكوى من أن أعماله تحقق مبيعات كبيرة في اللغة الروسية بينما لا تحقق نفس النجاح في الترجمة الإنجليزية، أو حتى في الأصل العربي، حتى إنه أخبره ذات مرة أنه يفكر في الكتابة بالإنجليزية!
اقرأ/ي أيضًا: هل كفّرت ابنتا نجيب محفوظ والدهما بعد وفاته؟
ويخصص دنيس جونسون ديفز جزءًا من كتابه لسرد المصاعب التي يواجهها المترجمون، وهي لا تتوقف فقط على التعامل مع اللغة او إيجاد ناشرين متحمسين للأدب العربي، بل تمتد إلى اتهامات بالعمالة والخيانة، مثلما كتب أحدهم بعد 50 عامًا قضاها ديفز في الترجمة أنه كان جاسوسًا بريطانيًا في مصر أثناء الحر بالعالمية الثانية، رغم أنه لم يكن موجودًا في القاهرة في ذلك الوقت. مصاعب أخرى تتمثل في السؤال الذي يواجه به أي مترجم وهو "لماذا ترجمت الكاتب الفلاني؟ ولم تترجم الكاتب العلاني؟"، حيث يوضح ديفز أن اختياراته في الترجمة تقوم على ذائقته الشخصية ومدى تحمسه للكاتب بغض النظر عن مدى شهرته، ولذلك فقد تحمس مثلًا في السبعينيات لترجمة أعمال يحيى الطاهر عبد الله، وحينما ذهب إلى الهيئة العامة للكتاب بحثًا عن دعم لترجمته رفض موظف كبير هناك إعطاءه أي دعم قائلًا "لماذا تترجم هذا الصعلوك؟".
اقرأ/ي أيضًا: