يبدو أن بعض بني الإنسان ليس أصلهم "قردة" طبقًا لنظرية داروين الشهيرة -والتي لم تصمد طويلاً- ولكن أصلهم فئران.
والنظرية هذه للمفكر السياسي الراحل أحمد بهاء الدين فقد لاحظ أن الفأر على استعداد لأن يدخل المصيدة مليون مرة مثل جده القديم، فهو لا يتعلم من التجربة ولا يستوعب الدرس. وهذه هي حقيقة كل مستعمر، وهو ما تكشفه الحروب المتتالية على الأرض العربية وما جاورها من بلاد الشرق: أمريكا تكرر خطاياها في أفغانستان والعراق الآن في سوريا، وروسيا لم تستوعب درس أفغانستان ورويدًا رويدًا تعلق رجلاها في المستنقع السوري، ومن قبلهم إسرائيل التي أغمضت عينها عن حقائق التاريخ بل تغفل ما حدث في تاريخها القريب.
ولا يزال آرييل شارون أصدق شاهد حين أتى على رأس حكومته طالبًا من شعبه أن يمهله 100 يومًا فقط ليقضي على المقاومة الفلسطينية، وقد ارتكب من الجرائم ما أثقل ميزانه في حق الشعب الفلسطيني الأعزل، ومع ذلك فشل بجدارة حتى أرهقته المواجهة ودق بيديه المخضبتين بالدماء على مكتبه غاضبًا في آخر اجتماع له كرئيس حكومة قبل سقوطه الصحي الأخير، قائلاً: "أوقفوا صواريخ القسام"، مع أنها تزعج أكثر مما تقتل أو تصيب، ولكنه لم يرد حتى أن يسمعها، لكي تبقى قوته الغاشمة هي المهيمنة، ومع ذلك فشلت في القضاء على المقاومة مهما كانت بساطتها، لأن الحقيقة الأبقى هي أن إرادة الشعوب في الحياة أقوى من كل جيوش الدنيا، أو كما عبر الشاعر العربي التونسي أبو القاسم الشابي: "إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر".
اقرأ/ي أيضًا: لماذا التجمع؟
إنه غرور القوة الذي يساعد على إقامة مجسدات استيهامية في عقول المخبولين بالسيطرة وبسط النفوذ في الأراضي البعيدة. إنها الأخطاء التي لا يملّ المتكبرون من ارتكابها طمعًا في الخلود فيعاجلهم التاريخ بصفحات سوداء وملوثة تحتلها أسماؤهم وصورهم البغيضة
هكذا أجبر الشعب المصري الأعزل نابليون على الانسحاب بعد سنتين من فقط ولم تفلح قنابله التي أطلقها على القاهرة في قهر إرادة أمة متحدة، وكذلك كان مصير الإنجليز في إمبراطوريتهم التي لم تكن تغيب عنها الشمس، حتى غابت عنها الشمس طويلاً وصارت دولة من الدرجة الثانية في ظلال الولايات المتحدة، وهل ننسى الجزائر التي اعتبرتها فرنسا مقاطعة فرنسية، وقد تجاوز احتلالها للبلد العربي الثلاثين سنة بعد المائة، فتحمّل الشعب الأعزل المليون ونصف شهيد وسقط من أبنائه في يوم واحد 45 ألف شهيد. ولكنه الثمن الغالي للحرية، والنتيجة هي هزيمة المستعمر ورحيله في النهاية. وهل ينسى التاريخ الدم الذي أساله الصليبيون للحجاج في بيت المقدس، وأقاموا الممالك والإمارات كأنهم سيبقون أبدًا، ومع ذلك رحلوا بعد حوالي مائتي سنة.
إنه الدرس الحتمي للتاريخ، ولكنها عقلية الفئران تتكرر دائمًا ليعيد التاريخ نفسه في فلسطين ولبنان وأفغانستان والعراق وسوريا. إنه غرور القوة الذي يساعد على إقامة مجسدات استيهامية في عقول المخبولين بالسيطرة وبسط النفوذ في الأراضي البعيدة. إنها الأخطاء التي لا يملّ المتكبرون من ارتكابها طمعًا في الخلود فيعاجلهم التاريخ بصفحات سوداء وملوثة تحتلها أسماؤهم وصورهم البغيضة. فئران بلا ذاكرة طويلة الأمد، بلا طيبة يمكن الوثوق بها، بلا مباهج موعودة، ولا مسرات ممدودة. فقط، فئران لا يجلبون سوى الأمراض والشر، أمراض مستعصية الحل وشرور تبقى لتلتهم كل الأحلام الشابة.
اقرأ/ي أيضًا:
الدرس الإسرائيلي و"الفائدة الدفينة"
تفاحة باسيل و28 أيلول