نعيش في عالم تصنعه الغيابات، أشياء كثيرة تواصل اختفاءها أكثر مما تواصل عيشَ حياتها. مفهومٌ للجميع لماذا اختفت الآلة الكاتبة، ولماذا تقلّص حضور الكمبيوتر المكتبيّ، الذي ربما سيصبح قريبًا جدًّا من كلاسيكيات عصر التكنولوجيا. لكنّ من غير المفهوم أنّ اللابتوب نفسه بات مهددًا أمام طغيان الأجهزة أخفّ حملًا وأكثر عملية. يبدو أن لعنة التطوّر تريد أن تضع لمستها، فكما تفعل كل شيء بسرعة، صار على حياة الأشياء أيضًا أن تصير قصيرة وعابرة.
البريد فقط هو من كان يجعل الانتظار جميلًا. بعده، كما قبله، عاد الانتظار لعنة إنسانية لا تطاق
اختفت الصّور الفوتوغرافية مفسحةً المجال لحضور الصور الرقمية، سهلة الالتقاط والتناقل، لكنّ الكارثة أنّ هذا الجديد ولّد استخفافًا بالماضي، فالألبومات الشخصية والعائلية التي جمعتها سنواتٌ من الحياة المشتركة، وباتت بمثابة تدوين تاريخي بصري للعائلة، باتت لدى البعض موضةً انتهى زمنها.
اختفت شرائط الكاسيت في المسجّلات، اختفت المسجّلات أيضًا. اختفت شرائط الفيديو "في إتش إس"، كما اختفت أجهزة عرض الفيديو كذلك. ثم وصلنا إلى عصر القرص المرن "فلوبي ديسك" الذي لم يطب له المقام عندنا وسرعان ما مضى تاركًا ذكرى صغيرة، باتت غير مفهومة لدى كثير من الناس، وهي ما يوضحها حوار أب يرفع "فلوبي ديسك" في وجه ابنه ويسأله واثقًا من أن الفتى لن يعرف: "هل تعرف ما هذا؟"، فيجيبه: "هذه علامة الحفظ في نظام ويندز".
السي دي لم يعد مهمًا ولا الدي في دي إلا في ما يخصّ الأفلام والبرامج، لأنّ الإيميل والفلاشة، أو وحدة الذاكرة USB، قد أطاحا بهما شرّ إطاحة.
اختفى البريد والرسائل والساعي. عصر كامل من الوله بات على قائمة الفراديس المفقودة. بين كل الاختفاءات التي أحدثها عصرنا تبقى هذه هي الأكثر قسوة والأكثر مرارةً والخسارة التي لا تعوّض، فلا مقارنة بين المكاتيب من جهة، والإيميلات والـ SMS ودردشات واتساب من جهة أخرى. تلك خسارة للروح والحواس في آن. البريد فقط هو من كان يجعل الانتظار جميلًا. بعده، كما قبله، عاد الانتظار لعنة إنسانية لا تطاق.
القلم في خطر. ثمة حرب وطيس بينه وبين الكيبورد لكنها لم تحسم بعد. النتائج الأولية تقول إن كيبوردات اللابتوب والموبايل والآيباد.. إلخ، تتقدم فيما يخسر القلم مواقعه. صحيح أن انتصار الكيبورد عزّز مكانة الإملاء بين الناس، حيث اقتناءهم هاتفًا ذكيًّا يحتّم عليهم التواصل كتابةً في برنامج الدردشة، ما يعني أنهم يحسنون كتابتهم مع الوقت، بينما على عهد القلم الذي لم يكن ضروريًا للجميع كانت تهديد الأمية لمن يعرف القراءة والكتابة من البسطاء أكبر، لأنهم سينسونها من قلة الاستعمال. فليذهب القلم وليأتِ الكيبورد.. لا مشكلة في الأداة، المشكلة فقط أننا نخسر جمال الخطوط. قيل "الخط لسان اليد"، الأيدي التي تتقافز أصابعها على شاشات الهواتف الذكية باتت شبه خرساء.
الموبايل هو الأداة الغول، استولى على مهمات غالبية أسلافه: الهاتف والرسالة البريدية وكاميرتي الفيديو والفوتوغراف والمسجّلة والبوصلة.. إلخ، والآن يكاد يكون الشخص نفسه. يكفي أن تعرف رقم شخص لكي تصل إليه، صار الموبايل، بمعنى أو آخر، هو عنوان الإنسان، وبالنسبة لحامله هو الشخص نفسه.
المول أطاح بالسوق. السوبرماركت أحال الدكاكين إلى التقاعد. ماكينات القهوة تخوض حرب تطهير عرقي ضد الركوات والدِّلِال. التكنولوجيا تتقدم، ووحده الإنسان من يخسر.
اقرأ/ي أيضًا: