خرجت "سرايا الدفاع" من حماة 1982 "منتصرة"، فقد قتلت حوالي أربعين ألف مواطن سوري، ودمرت نسبة كبيرة من المدينة، وغيّرت معالمها، وهجّرت الكثير من سكانها، ولاحقت من لم يمت إلى كل مكان، وأعدمت من طالته يدها بعد ذلك بمختلف أشكال الإعدام.
خرجت "سرايا الدفاع" من حماة 1982 "منتصرة"، فقد قتلت حوالي 40000 مواطن سوري
سبقت هذه "البطولات" حملة إعلامية شارك فيها التلفزيون السوري وأجهزة المخابرات التي روجت شفويًا لـ"بطولات" السرايا وأشاعتها بين الناس حتى عمت كل بيت، ورافق ذلك ظهور مسلح لعناصر السرايا في ساحات وشوارع المدن السورية، خاصة دمشق.
خلال الأعوام الأولى من ثمانينيات القرن العشرين، حتى العام 1984 كان الناس يتحاشون، ما أمكنهم ذلك، المرور في منطقة البرامكة، وجسر فيكتوريا في دمشق حيث يتجمهر "سرايا الدفاع" هناك مع ما يتبع ذلك من توجيه إهانات وتعدٍّ بالضرب وكل الموبقات بحق أي سوري لم يرُق شكله لأي عنصر في سرايا الموت هذه. كانت بطولاتهم المروية تتلخص في أنهم يأكلون الأفاعي حية، وقد بث التلفزيون استعراضات عديدة لفتيات من السرايا وهن يأكلن الأفاعي بالفعل، بحضور الأسدين: الرئيس وشقيقه. كذلك بالفظائع التي ارتكبت في حماة والتي ظهرت على أنها بطولات، من نوع أنهم اقتحموا بناية ما وقتلوا من فيها دون أن يشعر سكان البناية باقتحامهم، وكأنهم سحرة! وأنهم هبطوا داخل شقة في الطابق الأرضي من الطابق الثامن، ولم يستخدموا الدرج ولا المصاعد، واعتقلوا أو قتلوا من فيه! نزلوا بطريقة غامضة وعجائبية من الطابق الثامن إلى الطابق الأرضي، وهكذا..
ولم تذكر تلك المرويات، ولا الوثائق، ولا مشاهدات الناس، ولا ذاكرتهم، ولا ذاكرة الشعوب بطولة واحدة ضد العدو الإسرائيلي مثلًا، أو ضد أي عدو محتمل من الخارج، اقتصرت بطولاتهم على مواجهة السوريين فقط. اعتاد الناس في تلك الفترة أن يشاهدوا سيارات السرايا عليها صور رفعت الأسد وقد كتب عليها: القائد. وسرت شائعة، ثبت فيما بعد أنها صحيحة، أنه سيخلف الرئيس، وقد كان ما فعله في حماة شهادة حسن سلوك تثبت أهليته وقوته لاستلام الحكم، فهو الرجل القوي الذي أسكت الناس المتمردين مرارًا، وقد كانت مجزرة سجن تدمر 1980 طرية في ذاكرة الناس، وكانت دماء السوريين، في حماة خاصة، لم تزل طازجة، الأمر الذي يعني أن سرايا الدفاع مرتبطة في الذاكرة، وفي الواقع اليومي بالموت.
كأنما ثمة قدر على السوريين أن يبقوا طيلة حكم آل الأسد موزعين بين خيارات، أيها أقل توحشًا: سرايا الدفاع أم المخابرات؟ وفي المخابرات، أيها: الجوية، السياسية، أمن الدولة، فرع فلسطين، فرع المداهمة، الأمن العسكري..؟ وأية مفرزة ضمن الفرع الأمني ذاته: مفرزة باب مصلى، مفرزة جوبر، مفرزة المشاة؟ وهكذا..
ظل السوريون، طيلة حكم آل الأسد، موزعين بين خيارات: أيهما أقل توحشًا.. سرايا الدفاع أم المخابرات؟
الشاب الجامعي الذي يضع نظارة سميكة، سميكة جدًا ليستطيع الرؤية، الذي كان يسميه أهل الحي بـ: طالب الجامعة الخلوق، أبدى انزعاجه من قيام أحد عناصر سرايا الدفاع بالتحرش بزميلته التي كانت برفقته بمحاذاة سور جامعة دمشق، في حي البرامكة 1983. وقد عبر عن انزعاجه بسؤال العنصر: افرض أنها أختك. ربما ضعف بصره جعله غير قادر على التمييز: هل هذا عسكري (عادي) أم عسكري في سرايا الدفاع؟ إذ ثمة فرق طفيف لكنه ظاهر، فلباس السرايا مموّه، لكنه مائل للحمرة. وربما نزعة الزمالة التي طغت فجعلته لا يسكت عن التحرش بزميلته الجامعية أيضًا، وربما نزعة الرجولة التي أشعرته بالإهانة الشخصية من أن أحدًا يتحرش بصبية تمشي معه، دون اعتبار لوجوده! ربما وربما وربما... ولكن لو حدثت القصة مع أي سوري كان سيبدي انزعاجه وامتعاضه ولو كلفه ذلك أثمانًا باهظة.
هجم عناصر سرايا الدفاع على الشاب كقطيع من الخنازير الهائجة، سالت الدماء من أنحاء جسده كافة، تكسّرت، بطبيعة الحال، نظارته... فيما بعد بزمن ليس طويلًا، قال لي: لم أعد أرَى، أريد أن أهرب، ولكن لم أستطع الرؤية، أريد أن أصرخ ولكن لم يعد لدي صوت، أريد أن أكلم أحدًا ما، ولكن لا لسان لي... وعندما انفضوا من حوله، كان الناس يسيرون وعيونهم أمامهم، لا أحد ينظر، ولا أحد يتكلم، ولا أحد حاول تخليصه من بين براثنهم... زحف الشاب الخلوق زحفًا إلى الجدار المقابل، واستند عليه، كعكاز الأعمى، حتى وصل باب الجامعة، وبكى طويلًا بأعلى صوته، ومن يومها لم يعد إلى الجامعة، ولا إلى دمشق، ولم يعد يخرج إلى الشارع حتى في بلدته حيث لا يعرف أحد ماذا حدث له، وكان كلما شاهد فتاة ظنها هي التي أهين لأجلها وأمامها، فيغيّر طريقه... قال لي في آخر مرة شاهدته فيها: أنا مُهان!
اقرأ/ي أيضًا: