ألترا صوت - فريق التحرير
تقدّم "موسوعة رحلات العرب والمسلمين إلى فلسطين" صورًا لفلسطين في أكثر من ألف عام من تاريخها، منذ العصر الفاطمي وحتى أربعينات القرن الماضي، من خلال نصوص في أدب الرحلة، كتبها رحّالة ومستكشفون، وصحافيون وأدباء ومؤرخون، ورجال دين ومتصوفة، وسيّاح ومنفيون وحجّاج.
الموسوعة التي جمعها ودرسها ووضع حواشيها المؤرّخ والروائي الفلسطيني – السوري تيسير خلف، كانت قد صدرت عن "دار كنعان" في دمشق سنة 2010، بمناسبة "القدس عاصمة الثقافة العربية 2009"، معلنةً هدفها النبيل عبر جعل الاحتفال بالقدس لا يكون بغير إتاحة تاريخها للجميع.
تقدّم المجلدات الثمانية التي تتكوّن منها الموسوعة ملامح اجتماعية وسياسية وثقافية، من تاريخ طويل شهد انقلابات وإضرابات لم تتوّقف، دون أن يكون التاريخ تاريخًا بحدّ ذاته، إذ إنّ نصوص الرحلات تقوم على تجارب شخصية مع البشر والأمكنة، إلا أن عملية جمعها مع بعضها البعض وتحريرها بهذه الطريقة، في عمل استثنائي، مرجعي وشيّق في آن، جعل من ألف سنة وأكثر تتحوّل إلى حكايات، والرحّالة والكّتاب والمتصوفة والقضاة الذين اجتمعوا في هذا السفر يتحوّلون إلى رواة، فيما أصبح الدين والاجتماع والجغرافيا والمذكرات مرايا للمكان الفلسطيني وذاكرته.
إنجاز تيسير خلف أنّه جعل من هذه الأعمال المتفرقة، كما ينبغي أن تكون، فصولًا متتاليةً في كتاب فلسطين الذي يكتبه الزمن بتؤدةٍ لم تعرفها الكتابة من قبل.
وصف فلسطين أيام الفاطميين
تضمّن الجزء الأول من كتاب تيسير خلف أربع رحلات هي: رحلة الحسن بن أحمد المهلبي من كتابه "المسالك والممالك"، المعروف بكتاب "العزيزي"، ونص ثانٍ للمقدسي البشاري من كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، وثالث لناصر خسرو من "سفرنامة"، ورابع لأبي بكر ابن العربي، عثر عليه الدكتور إحسان عباس في كتاب "قانون التأويل"، ونشره تحت عنوان "رحلة ابن العربي كما صوّرها قانون التأويل.
تأتي أهمية هذه النصوص، كما يقول تيسير خلف، من كونها الأهمَّ التي كُتبت منذ الفتح الإسلامي، ذلك أن العباسيين أهملوا الشام إهمالًا كبيرًا بسبب عدائهم مع الأمويين، واهتموا بالشرق، حيث كُتبت أشهر الرحلات العربية إلى الهند والسند والصين وغيرها.
من الملاحظات الهامة التي يشير إليها الباحث، هو وجود كنيسة مقابلة للمسجد الأقصى من جهة المحراب بحيث تتصل أروقتها بأروقة المسجد، كما يشير المهلبي. ويعلّق تيسير خلف: "هذه الملاحظة تعدّ على غاية من الأهمية، بالنسبة إلى وضع المساجد والكنائس قبل الحروب الصليبية، وما تلاها من عمليات هدم وإعادة بناء طالت كل شيء تقريبًا.
وصف فلسطين أيام الحروب الصليبية
تضمّن الجزء الثاني من كتاب تيسير خلف والذي حمل عنوان "وصف فلسطين أيام الحروب الصليبية"، نصوصًا لكل من: أسامة بن منقذ، والضياء المقدسي، وابن جبير، والهروي، والعبدري، وابن نباته، والبلوي، وابن بطوطة، وشيخ الربوة، وابن فضل العمري العثماني، وابن أجا الحلبي، وابن الجيعان.
قدّمت رحلات ابن منقذ وابن جبير والهروي معطيات مهمة عن الأوضاع العمرانية لبعض مدن فلسطين تحت حكم الصليبيين، وقد تحّدث ابن منقذ وابن جبير عن التبادل التجاري ونفوذ تجار دمشق لدى الصليبيين.
يعّلق تيسير خلف: "من خلال الأوصاف التي قدّموها يلحظ أنهم وإن كانوا حوّلوا المساجد إلى كنائس، إلا أنهم لم يغيّروا الشكل المعماري لتلك المساجد، وهذا ما نجده في مسجد عكا الذي حدّثنا عنه ابن جبير، وكذلك في المسجد الأقصى وقبة الصخرة اللذين حدّثنا عن تجربة الصلاة فيهما ابن جبير".
انعدمت الحياة العلمية في فلسطين أثناء الحروب الصليبية، حيث عبّر ابن العبدري بأسى عن افتقاد فلسطين للعلماء في الفترة التي تلت الخروج الثاني للصليبيين من بيت المقدس، إلا أن الرحلات اللاحقة كرحلات ابن نباته والبلويّ وابن بطوطة بيّنت كيف عاد بيت المقدس مركزًا للحديث والفقه، غير أن الحركة العلمية في العالم الإسلامي برمته شهدت تراجعًا حلّ فيه النقل مكان العقل.
السياحة الصوفية والزيارات الدينية
الجزء الثالث جاء بعنوان "السياحة الصوفية والزيارات الدينية"، ويضم: رحلتي أوليا جلبي، ورحلة الخياري، ورحلة عبد الغني النابلسي الثانية، ورحلات مصطفى البكري الصديقي، ورحلة المكناسي، ورحلة البوسعيدي، ورحلة القياتي.
يقدم تيسير خلف صاحب "مذبحة الفلاسفة" مدخلًا تاريخيًا لهذا الكتاب، يسرد فيه باختصار دخول فلسطين، وعموم بلاد الشام، إلى سلطة الحكم العثماني، إلا أنه يتوقّف عند أربع علامات تخص فلسطين في هذا العصر، يوردها كما يأتي:
- في القرن السادس عشر، برزت مراكز قوى مبعثرة، تمثّلت في زعامات محلية، استخدمتها الدولة العثمانية كأدوات في الحكم، وفي تصريف الشؤون الإدارية المحلية.
- في الثلث الأول من القرن السابع عشر، انتقلت الأمور إلى قوى محلية من خارج فلسطين (فخر الدين المعني الثاني)، لتعود الأمور في الثلث الثاني من ذلك القرن إلى السلطة العثمانية.
- جاء ظهور إمارة عربية في الثلث الثالث من القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر، وهي إمارة الزيادنة بقادة ظاهر العمر الزيداني.
- بعد القضاء على إمارة الزيادنة، والحملة الفرنسية 1799، ومن ثم دخول إبراهيم باشا المصري إلى بلاد الشام، وإنزال الوالي العثماني أحمد باشا الجزّار العقوبات والأتاوات التي أنهكت البلاد، بعد ذلك كله بدأت ملامح التحديث تظهر على أنظمة الحكم.
خلال هذه الفترات كلّها، انتشرت السياحة الصوفية، وهي رحلات لشيوخ الطرق ومريديهم إلى أضرحة الأنبياء والصحابة والصالحين. وقد قدمت هذه الرحلات معلومات عن الأحوال الاجتماعية، كوّنت صورة عن فلسطين، في وقت كانت فيه المعلومات عنها شحيحة للغاية.
موانح الأنس برحلتي لوادي القدس
يقوم الجزء الرابع من موسوعة تيسير خلف على النص الكامل لرحلة مصطفى أسعد اللقيمي الحسيني، المسمّاة "موانح الأنس برحلتي لوادي القدس"، وهي الرحلة التي فام بها في القرن الثامن عشر الميلادي إلى فلسطين، ضمن سياق "السياحات الصوفية" المشار إليها سابقًا.
انطلقت الرحلة سنة 1731 من دمياط إلى القدس، ثم إلى بلاد الشام، فالعودة إلى مصر. في فلسطين بدأ اللقيمي برفح ثم غزة، ثم الرملة فيافا فالقدس فالخليل، فالقدس مرة أخرى إذ قضى فيها مدة، بعدها زار نابلس وطبريا، وشمأَل إلى سوريا.
يكتب تيسير خلف: "إنّ فلسطين في رحلة اللقيمي تبدو بطيئةً في حركتها، لا يشوب صمتها إلا أخبار قطّار الطرق من البدو وغير البدو، الذين كانوا يسطون على القوافل. ومع أن اللقيمي لم يصادف قاطع طريق واحدًا إلا أن هذا الهاجس كان مسيطرًا على أجواء الرحلة، وهذا بحدّ ذاته أمر متوقّع نظرًا لفقدان السلطة المركزية العثمانية هيبتها خلال القرن الثامن عشر".
الروضة النعمانية
يحمل الجزء الخامس عنوان "الروضة النعمانية في سياحة فلسطين وبعض البلدان الشامية" للكاتب الدمشقي نعمان قساطلي (1855 - 1920).
وقساطلي مؤرّخ ولد بدمشق ونشأ بها، وتعلّم فيها علوم العربية والرياضيات. من أعماله المعروفة "الروضة الغنّاء في دمشق الفيحاء". عمل قساطلي مع "صندوق استكشاف فلسطين" البريطاني مدّة ثلاث سنوات، بين 1874–1877، واكتسب خبرة علمية.
يشير تيسير خلف إلى أنّه اعتمد في هذه الرحلة على دفتر ملاحظات ميدانية صحب قساطلي ودوّن عليه ملاحظاته. تنوعت مصادر معلومات رحلته بين التجربة الشخصية، والمقابلات مع مواطنين، والاعتماد على بعض المراجع التاريخية.
تتحدّث الرحلة عن آثار جبل الخليل وذكر أوصافه، وعن تقسيم المكان إلى مقاطعات محكومة من عائلات إقطاعية، كما يتناول الصحة والتعليم والعادات.
يشير صاحب "عصافير داروين" إلى أن قساطلي لم يكن يدرك، بحكم حدود وعيه ووعي أبناء زمنه، حقيقة فريق "صندوق استكشاف فلسطين"، فالهدف النهائي لعمليات المسح والاستكشاف هو وضع خارطة ستكون أساسًا للكيان الصهيوني المستقبلي.
اقرأ/ي أيضًا: