قلما تجد رواية تحمل ثيمات متعددة ومتنوعة، تفتح لك نوافد على التاريخ والجغرافيا، وتقدم دروسًا جمة من علم الاجتماع إلى الأنثروبولوجيا، وتكتشف فيها تفاصيل دقيقة عن تقاليد وطقوس أهل مدينة وهوامشها المنسية. رواية "خاتون بغداد" (دار سطور، بغداد 2017) للكاتب شاكر نوري، الحائزة على جائزة كتارا للرواية العربية 2017، من بين تلك الأعمال الروائية التي تجمع بين المتعة والمعرفة.
اقتحمت مس بيل بقوة عوالم المجتمع العراقي المحافظ، وتعددت أدوارها بين العمل الاستخباراتي والسياسي والثقافي
يروي شاكر نوري بضمير المتكلم أحيانًا سيرة خاتون، التي تعني لغويًا الملكة أو السلطانة. إنها مس بيل، الشخصية النسائية الإنجليزية، سكرتير المندوب السامي الإنجليزي في العراق، التي لا تزال تثير النقاش في الأوساط العراقية حتى يومنا، وتتباين مواقف العراقيين تجاهها بين القبول والرفض والتحفظ. اقتحمت مس بيل بقوةٍ عوالم المجتمع العراقي المحافظ، وتعددت أدوارها بين العمل الاستخباراتي والسياسي والثقافي، حيث أسّست المكتبة الوطنية العراقية والمتحف العراقي، وأرست دعائم النظام السياسي الملكي في العراق.
اقرأ/ي أيضًا: هانس فالادا.. في سعار المورفين
الرواية عمل توثيقي دقيق يبدأ من لحظة انسحاب القوات العثمانية من الأراضي العراقية، ودخول القوات البريطانية سنة 1917، وبداية إرساء نظام ملكي يحكم العراق بتعيين الأمير فيصل على رأس المملكة. بأسلوب أدبي ممتع يبحر صاحب رواية "كلاب جلجامش" في تفاصيل سياسية تنبش دوافع ودواعي هذا الخيار السياسي، ليفتح لنا أبواب نكتشف من خلالها تناقضات المجتمع العراقي التاريخية، والتعدد الطائفي والمخاطر على الوحدة الترابية، ومبررات إقرار النظام الملكي بدلًا من النظام الجمهوري، كما يروي تفاصيل طقوس مجتمعية وينتقد بصورة ذكية بعض السلوكيات.
في الرواية صورة تعريفية موجزة ترسم لنا ملامح شخصية الأمير فيصل، من خلال نمط عيشه اليومي في قصره، وأسلوب تعامله مع العشائر والقبائل العراقية، وتدخلات الإنجليز في السياسة العراقية.
تتسع الرواية لتحمل جوانب رومانسية عن ميس بيل، أو خاتون كما يطيب للعراقيين أن يسموها، حيث وقعت في حب هنري كادوغان، الدبلوماسي الإنجليزي في طهران، بسبب ميوله الشعرية وحساسياته العاطفية. تتبادل مس بيل الرسائل مع والديها اللذين أبديا تحفظهما عن العلاقة، كونها من عائلة برجوازية أما كادوغان فموظف بسيط في قنصلية، لكنه سيموت في ظروف درامية. تجربة عاطفية أخرى مصيرها الفشل تترك جرحًا عميقًا في داخل ميس بيل. هذا الحب المستحيل جاء بعد قصة حب مع زوج صديقتها ريتشارد دواني الذي يشهد مصير هنري كادوغان نفسه.
رسائل وكلمات عاطفية تحمل أشجان هذه المرأة الحديدية في الظاهر، الهشة من الداخل، وكأنَّ شاكر نوري أراد أن نتقاسم معه محاولة فهم التاريخ البعيد والقريب، كيف لميس بيل المرأة التي على عاتقها مستقبل بلد، وتعاملت مع تشرشل ولورنس العرب ومختلف عشائر العرب، هي امرأة عاطفية، رقيقة، هشة غير قادرة على رسم خياراتها الحياتية؟
توثق رواية "خاتون بغداد" انسحاب القوات العثمانية من العراق، ودخول القوات البريطانية سنة 1917، وبداية إرساء نظام الحكم الملكي
تتوغل الرواية في سراديب العلاقة بين الشرق والغرب، أو كيف ينظر الآخر إلى الشرق؟ إضاءات جميلة تحملها الرواية تعكس نظرة خاتون إلى هذا الشرق الذهبي، المشمس عبر رماله، وترتبط بهذا اللغز المشرقي الممتد تاريخيًا وروحيًا ونفسيًا، منجذبةً بسحر الطبيعة وجمال الكون وبهاء صحاريه وصفاء سمائه وأبعاده الروحية والصوفية، متأثرةً بأشعار الشيرازي، ما يجعلها تجد في بريطانيا موطنًا للضباب لا طعم ولا ذوق فيه، جامد جماد الطقس البارد.
اقرأ/ي أيضًا: سفيتلانا أليكسيفيتش.. حارسة الذاكرة
هذا العمل الروائي التاريخي الذي يرفع الستارة عن جوانب تاريخية وحياتيه للمجتمع العراقي جاء في قالب روائي جاد ولغة قوية ومتينة. فيها مرافعات تاريخية ومواقف تتقاطع مع الأحداث الجارية اليوم في العراق، بما يؤكد هشاشة العراق بكل أبعاده التاريخية والسياسية والمجتمعية.
اقرأ/ي أيضًا:
حوار| مرزوق الحلبي: القصيدة الرديئة رديئة لو عادت أم كلثوم إلى الحياة وغنتها