أعاد الروائيّ الكولومبيّ خورخي فرانكو (1962) في روايته "روساريو" (دار ممدوح عدوان/ دار سرد، 2020، ترجمة مارك جمال)، طرح سؤال فرانز كافكا: هل أنا نفسي فعلًا، أم صنع منّي الآخرون الشخص الذي أنا عليه؟ ولكن بصيغةٍ مُختلفة جاء السؤال عندها داخل الرواية أقلّ عُمقًا ممّا هو الحال عند كافكا، ولكنّه، رغم ذلك، شكَّل جوهرها وأساساتها وأرضيّتها وجدرانها وسقفها أيضًا، خصوصًا أنّها تبدأ بهذا السؤال وتنتهي عندهُ باعتباره خُلاصة حياة بطلتها روساريو وبقيّة شخصيّاتها الرئيسيّة أو الثانويّة، الأمر الذي يجعل من السؤال، بعد أن كان خاصًّا ومُرتبطًا بالبطلة والشخصيّات المُقرّبة منها فقط؛ أقرب إلى شأنٍ عام يعني فئة بشريّة كبيرة تُصادف هذا السؤال يوميًّا عشرات المرّات.
في رواية "روساريو"، يُقدِّمُ خورخي فرانكو عملًا قائمًا على سؤال الذات وتحوّلاتها عند شخصيّاتٍ تشغلُها رغبة مُلحّة بالحديث عمّا كانت عليه سابقًا
يُقدِّمُ خورخي فرانكو عملًا سرديًّا قائمًا على سؤال الذات وتحوّلاتها عند شخصيّاتٍ تشغلُها رغبة مُلحّة بالحديث عمّا كانت عليه سابقًا، وما انتهت إليه أحوالها فيما بعد. ويُمكن القول إنّ هذه الرغبة تبدو أقرب إلى نزعة، خاصّةً عند أنطونيو الذي أوكل إليه الروائيّ الكولومبيّ مهمّة سرد حكاية روساريو وبقيّة أحداث الرواية، دون أن يقف عند الحدّ فقط، إذ يجد نفسه مدفوعًا للحديث عمّا يخصّهُ أيضًا: أزماته وتحوّلاته وعلاقته بروساريو التي يُخفي عنها أنّه يُحبُّها لعدّة أسباب، منها أنّها لا تراه أكثر من مُجرّد صديق، وأنّها عشيقة صديقه المُقرّب حينًا، وعشيقة شابّ آخر يُشاركها العمل مع واحدة من عصابات المدينة حينًا آخر، ممّا يجعل من طريقه إليها وعرًا.
اقرأ/ي أيضًا: حسونة المصباحي يكتب يوميات الكورونا.. يوميات الغضب والأدب
أراد الروائيّ الكولومبيّ أن يكون لقاء قُرّاء العمل ببطلته روساريو سريعًا وصادمًا، إذ نتعرّف عليها لحظة إصابتها بعدّة رصاصات أثناء لقائها بأنطونيو الذي ينقلها إلى المُستشفى، حيث تُتاح لهُ هناك الفرصة للعودة إلى الماضي، وسرد حكايتها بعد أن قاربت، كما بدا له، على نهايتها، فيبدأ أوّلًا بتشكيل صورة شبه بانوراميّة للمكان الذي نشأت فيه روساريو باعتباره المسؤول الأوّل عمّا حلّ بها، وهو العالم السُفليّ المُهمّش والمُهمل لمدينة ميديين الكولومبيّة، حيث ولدت وسط ظروف ماليّة صعبة مرّت بها عائلتها التي تفكَّكت بعد اختفاء والدها ولجوء والدتها إلى الدعارة لكسب قوتها وقوت أبنائها.
صحيح أنّ الصورة التي شكَّلها أنطونيو لمُحيط روساريو ليست بانوراميّة، مُختصرة وسريعة، إلّا أنّها بدت كافية لتوضيح طبيعته باعتباره مكانًا تنشط فيه الجريمة وتجارة المُخدّرات والدعارة، وينتشر فيه الفقر والبؤس، بالإضافة إلى العصابات التي فرضت سلطتها على بشره بالقوّة والترهيب، ممّا يعني أنّه مكان غير صالح للعيش إطلاقًا. ويُمكن هنا إعادة سبب انصراف خورخي فرانكو عن بناء صورة بانوراميّة واسعة لهذا المكان إلى وجهة العمل وغايته منه، فما يعنيه داخل الرواية هو الفرد، إنسان هذه الأمكنة الهامشيّة والمُهملة بخياراته الصعبة والضيّقة والمُحدَّدة مُسبقًا: إمّا أن يعيش الفرد فقيرًا وجائعًا، أو أن يذهب باتّجاه مُمارسة القتل وتجارة المُخدّرات التي تجعل من حياته مُغامرة، لعبًا بالنار، أو لنقل تذكرة، لم يُحدَّد تاريخها، نحو العالم الآخر.
والمُحصِّلة أنّه سيظلّ، في الحالتين، ضحيّة هذا المُحيط، وأنّ الاختلاف الوحيد هو موقعه منه فقط: إمّا ضحيّة ولكن من موقعه كمُتفرِّج، مُجرَّد شاهد على ما يحدث حوله، أو ضحيّة من موقعه كأداة في يد العصابات، قاتل مأجور في أحسن الأحوال. وفي كلّ الحالات، بالنسبة إلى الذكور أو الإناث، يبدو المصير واحد: يُنزع المرء عن ذاته، يُفصل عنها بحيث يكون مُغتربًا وفارغًا يُطاردهُ سؤال: من أنا؟ تمامًا كما هو الحال عند روساريو.
تتشارك روساريو وبقيّة شخصيّات العمل مصيرًا يبدو واحدًا وثابتًا، ولكنّها وبطبيعة الحال تختلف عنها لجهة الظروف التي قادتها إلى هذا المصير أوّلًا، وشكل سؤال: من أنا؟ عندها ثانيًّا، إذ يأخذ هذا السؤال منحىً مُختلفًا تمامًا، قائمًا على شكِّها المُتواصل بحقيقة ما هي عليه، وفشلها في التمييز بين ماضيها وحاضرها، خصوصًا أنّ الأخير يبدو بالنسبة إليها مُجرّد انعكاس للأوّل، ذلك الذي لا يستعيد منه أنطونيو إلّا الأحداث التي صنعت ما هي عليه روساريو بصورتها الأخيرة التي سبقت وفاتها.
نشأت بطلة رواية "روساريو" في العالم السُفليّ المُهمّش لمدينة ميديين الكولومبيّة، حيث اضطرت والدتها إلى العمل في الدعارة لكسب قوتها عائلتها
يضعنا أنطونيو عند سرده لحكاية روساريو أمام شخصيّة مُفكَّكة مُعاد تركيبها وفقًا لما يريدهُ مُحيطها ومُشغِّليها، تعرّضت للاغتصاب في الثامنة من عمرها من قبل أحد زبائن أمّها، وبحسب أنطونيو: "كلّما تعرّف المرء بالجنس مُبكِّرًا، زاد احتمال إخفاقه في الحياة. ولذا أصرُّ على القول بأنّ روساريو ولِدَت خاسرة، لأنّها اغتُصبت قبل أن تفتح عينيها على الدنيا" (ص 21). ثمّ تعرّضت للاغتصاب من جديد في شبابها، ولكنّها هذه المرّة كانت قادرة على الثأر لنفسها، إذ استدرجت مُغتصبها إلى بيت والدتها، واستأصلت خصيتيه بالمقصّ، الأداة التي ستُرافق اسمها طيلة حياتها، خاصّةً بعد أن تحوّلت إلى مُجرمة ومدمنة مُخدّرات.
اقرأ/ي أيضًا: روبرت فالزر بالعربية
ولكنّها، قبل ذلك كلّه، إنسان يُحاول أن يتغيّر ويُغادر ما تورَّط فيه، ولكنّه يفشل في كلّ مرّة لسبب وحيد: خسارته سابقًا لذاته واغترابه عنها، واستسلامه فيما بعد لعمليّة تفكيكه وإعادة تركيبه وفقًا لرغبات الآخرين ممّن أرادوا لها أن تلبس ثوبًا جديدًا يتناسب مع ما يريدونهُ منها وعبرها، الأمر الذي ولَّد لديها في نهاية المطاف سؤال: هل أنا نفسي فعلًا، أم صنع منّي الآخرون الشخص الذي أنا عليه؟
اقرأ/ي أيضًا:
توماس برنهارد في "صداقة مع ابن فيتغنشتاين".. التأمل من منظور المصحات