قبل أسبوع، أصدر النائب العام المصري تعليمات لكل النيابات بتفتيش الأقسام والسجون بصفة دورية ومفاجئة للتأكد من توافر كافة الضمانات والحقوق للمسجونين والمحبوسين احتياطيًا وتوفير كافة سبل الرعاية لهم وفقًا لما كفله الدستور والقانون. لكن مراقبين اعتبروا أن الخطوة لم تحمل جديدًا في مضمونها ولن يخفف ذلك الإجراء من معاناة المسجونين، مرجعين ذلك إلى أن النيابة تملك حق تفتيش السجون وأقسام الشرطة منذ زمن بعيد، لكنها لا تقوم بتفعيل قراراتها. يذكر أن النائب العام السابق هشام بركات قد أصدر قرارًا مشابهًا في نيسان/أبريل 2015، حتى أنه تضمن نفس العبارات، لكنه ظلّ حبرًا على ورق ولم يتم تفعيله.
أحمد الخطيب المسجون في قصية سياسية مصاب بمرض خطير وهو "داء الليشمانيا الحشوي"، وترفض إدارة السجن عمل مسح للسجن لمنع انتشار العدوى
جاء الإعلان الصادر عن النائب العام بالتزامن مع وقائع تعذيب جديدة داخل أقسام الشرطة يجري التحقيق فيها وآخرها واقعة قسم شرطة الهرم، والتي تم حبس عدد من المتهمين فيها على ذمة التحقيقات، كما يتزامن مع استمرار الأوضاع الصعبة التي يعاني منها كثير من المسجونين، وآخرها ما جرى الكشف عنه بخصوص الحالة الصحية المتردية للشاب أحمد الخطيب الذي أثارت قصته تعاطفًا واسعًا.
اقرأ/ي أيضًا: آية حجازي..هذا مصير المبادرات الإنسانية في مصر
وكان قد قُبض على الخطيب في 28 تشرين الأول/أكتوبر 2014، أثناء تواجده بسكن للطلبة بمنطقة الشيخ زايد، واتُّهم بـ"الانتماء إلى جماعة محظورة"، وصدر ضده حكمًا في 26 آذار/مارس 2016، بالسجن 10 أعوام، وشهدت فترة حبسه تدهور حالته الصحية حيث إنه يعاني من تضخم في الطحال والكبد وتدهور في كافة مكونات الدم، مما يستلزم علاجه سريعًا وإلا أدت حالته للوفاة. وكانت التحاليل الطبية قد أوضحت أن الخطيب مصاب بمرض خطير ونادر ينتقل عن طريق الذباب، وهو "داء الليشمانيا الحشوي"، ما أثار اهتمام أطباء أشاروا إلى نصّ التقرير الطبي المصاحب لحالة الخطيب على التوصية بعمل مسح طبي للمنطقة التي كان موجودًا بها المصاب لمنع انتشار العدوى، لكن مصلحة السجون لم تقم بأي عملية مسح أو فحص للمسجونين داخل مجمع سجون وادي النطرون، الذي يحتوي على أربعة سجون تحتوي على آلاف المسجونين من جنائيين وسياسيين، كما يحتوي على معسكرات تدريب للأمن المركزي ومزارع تابعة لوزارة الداخلية.
قمع أكثر..
دعوة النائب العام لاستمرار زيارات النيابة العامة للتفتيش على أهميتها، إلا أنها تبدو مفرغة من مضمونها في ظل عدة معطيات أساسية، أولها هو أنه لا جديد بخصوصها بل هي مسألة يُفترض أنها مستمرة وقائمة بالفعل ومع ذلك فأوضاع السجون وما يجري فيها، كما توضح تقارير حقوقية وحكومية، لا يزال كما هو دون تغييرات جوهرية في حقيقة الأمر، وثانيها هو استمرار تقييد دور المجلس القومي لحقوق الإنسان بالمشاركة الفعّالة في الرقابة على الأوضاع في السجون باشتراط حصوله على تصريح مسبق لزيارة أي سجن مع تولي إدارة السجن تحديد الموعد المناسب للقيام بتلك الزيارات، وهو ما ينتج عمليًا مشاهد مثل تلك التي تظهر على التلفزيون الرسمي لزيارات وفود المجلس لعدة سجون تصبح مُعدة ومهيّأة بما يخالف حقيقة الممارسات اليومية فيها، أما ثالث تلك المعطيات فهو التعديلات التي صدرت في الشهر الماضي من وزير الداخلية على مواد لائحة السجون، التي بدلًا من أن تتوجه في أي جانب منها لضبط ومعالجة الأمور التي يعاني منها السجناء كرّست السياسات القمعية بحقهم، فقد غلّظت في مضمونها من وسائل وسبل الإمعان في العقاب، فزادت من الحدّ الأقصى لمدة الحبس الانفرادي من 15 يومًا إلى 6 شهور بل وعمّمه على كل السجون بدلًا من التصدّي لتقييد مسألة الحبس الانفرادي بكل آثارها المزرية وظروفها الصعبة، ورغم تحديد نصّ المادة المعدلة لحالات محددة يجوز فيها تطبيق عقوبة الحبس الانفرادي فإنها كالعادة شملت نصوصًا مطاطة مثل "ارتكاب أي أفعال من شأنها الإخلال بأمن السجن"، كما أجازت التعديلات على مواد اللائحة السماح باستعمال القوة مع المسجونين بدءًا من خراطيم المياه وقنابل الغاز المسبل للدموع وصولًا إلى إطلاق أعيرة الخرطوش عليهم. كل هذه الإجراءات القمعية جرى استحداثها والعمل على تنفيذها بدلًا من أن تتصدّى وزارة الداخلية ومصلحة السجون لتحسين سمعة سجونها التي صارت مضربًا للأمثال على المستوى الدولي.
بحسب حقوقيين، فإن أي حديث عن تحسين أوضاع المحتجزين يبدأ بإنشاء غرف حجز آدمية في أقسام الشرطة تمنع انتشار الأمراض بين المحبوسين
وإذا كان هذا في ما يتعلّق بالسجون، فقد تكون هناك أضعاف مضاعفة مما يمكن الحديث عنه من الأوضاع في حجز أقسام الشرطة وما يجري فيها كذلك، فضلًا عن الظروف الصحية الصعبة التي تساهم في استفحال الأمراض لمن يقضون فترة حبسهم الاحتياطي أو سجنهم في مثل تلك الظروف، وهو ما تكرر في أكثر من حالة ربما يكون آخرها حالة أحمد الخطيب، ومع ذلك تداوم الأجهزة الرسمية على حالة التأخر المستمر بل والتقاعس في بعض الأحيان عن الاستجابة لمطالب النقل إلى مستشفيات مجهزة أو توفير الرعاية الصحية اللازمة. وبحسب منظمات حقوقية محلية ودولية، فإن عشرات الآلاف من المسجونين والمحبوسين احتياطيًا يتعرضون لانتهاكات بالجملة، وسط صمت تام من النيابة العامة والقضاء المصري، كما شهدت الأسابيع الأخيرة 9 حالات وفاة داخل السجون وأقسام الشرطة نتيجة الإهمال الطبي المتعمد. ورصد مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب 358 حالة إهمال طبي متعمد في السجون وأماكن الاحتجاز المختلفة خلال العام 2015، كما قام برصد 16 حالة إهمال طبي انتهت بالوفاة في أماكن الاحتجاز، ليرتفع العدد في 2016 ليصل إلى 448 حالة تم رصدها عن طريق المركز، أما عن أماكن الاحتجاز التي فقد فيها المحتجزون حياتهم جراء الإهمال الطبي، فقد تم رصد 55 مقرًا شرطيًا، وذلك خلال العام 2015 فقط.
اقرأ/ي أيضًا: المجتمع المدني في مصر..صراع الدولة والمواطنين
إرهاب أكثر
وبحسب حقوقيين، فإن أي حديث عن تحسين أوضاع المحتجزين يبدأ بإنشاء غرف حجز آدمية في أقسام الشرطة تمنع انتشار الأمراض بين المحبوسين، بدلًا من غرف الحجز التي لا تتجاوز مساحتها 10 أمتار ويتكدس بها عشرات الأشخاص، ويرى هؤلاء أن هناك الكثير من حالات التعذيب في السجون وأقسام الشرطة، وهذه أزمة مستمرة ومعروفة ولم تستطع النيابة أو المجلس القومي لحقوق الإنسان إيقاف هذه الممارسات لأن الداخلية ما زالت تفعل ما تريد ولديها الصلاحيات المطلقة في هذا المجال، ويرجّح البعض أن تستمر حالات التعذيب والإهمال في مقرات الاحتجاز طالما اختفت آليات المحاسبة والمراقبة.
وفي ظل نصوص مثل المُشار إليها في تعديلات لائحة السجون الأخيرة، وفي ظل ممارسات يومية تتجاوز عمليًا أي نصوص أو قواعد في كثير من الأحيان؛ يصبح التوقف أمام بيان النائب العام بخصوص توفير جميع الحقوق والضمانات للمسجونين والمحبوسين احتياطًيا توقفًا مُحمّلًا بالأسئلة، فالأوضاع القائمة في السجون بحاجة إلى أكثر من مجرد توجيهات باستمرار زيارات التفتيش المفاجئ، خصوصًا في ظل تحول أوضاع تلك السجون لأداة تقمع وترسّخ الإحساس بالظلم وغياب العدالة لدى الكثيرين بدلًا من "التأديب والتهذيب والإصلاح" كشعار نظري لمفهوم عقوبة الحبس والسجن، فضلًا عما يتعلق بإسهام تلك الأوضاع والممارسات في تحويل بعض السجناء إلى عناصر مهيّأة ومؤهلة للاستقطاب من جانب العناصر المتطرفة دينيًا، لتضاف إلى قائمة مهام "محاربة الإرهاب" التي يرفعها النظام الحالي مهمة أخرى ملحة وهي التعامل بجدية مع أوضاع السجون والتصدي لما يجري فيها من تجاوزات وانتهاكات، لن تتوقف بمجرد استمرار زيارات التفتيش الدورية المفاجئة ولن يقلل من خطورتها إصدار عفو رئاسي بحق طالب جامعي تراكمت علي جسده أمراض مهلكة بفعل تعسّف وزارة الداخلية ومصلحة سجونها التي لا تقيم وزنًا لحياة أي بني آدم أوقعته الظروف البائسة تحت رحمة أفرادها الذين لا يعرفون سوى سياسة القمع حتى آخر نَفَس.
اقرأ/ي أيضًا: