"أمِّي/ لمَن هذه النجومُ/ حَتى أفرشَ عَلى شَوكِها/ الغِيابَ/ وأَهدِي كمَحمومٍ بالشَّجنِ الأودِيبِي؟/ أمِّي/ ذَلك الذي اصطفَاكِ/ مِن بَين عشَراتِ المقَاعدِ على مَتنِ القِطار/ أتَذكُرينَهُ؟". بهذه الكلمات المحمومة يفتتح الشاعر سفيان البالي مجموعته الشّعريّة الأولى "أو كما تكلّمت الشّمس" التي أهداها طبعًا إلى أمه وأبيه نوال وعبد الرحمن. للوهلة الأولى يَحارُ القارئ لو أنّه بين يدي غنائيّة أو نوع من الأفكار والأبنية المنطقيّة للقصائد. ما يساعد على ذلك هو ذلك الاسترسال في قصيدة الشّاعر الموزّعة، القصيدة التي تجعل قارئها مقيمًا وأحيانًا عابرًا وفي أحيان أخر موغلًا في التفاصيل وساعيًا إليها.
بنى سفيان البالي شعريته على مقوّمات عديدة ومشتّتة، أوّلها السرديّة العالية، إذ نجدُ أن القصيدة تبحث عن قصيدة أخرى وتسلّمك إليها
بالعودة إلى العنوان فإنّ "أو كما تكلّمت الشّمس" يحيلُ إلى نوع من العناوين البعيدة عن التوقّع والخارجة عن سائد العناوين المنتقاة من الداخل، عنوان محايد نوعًا ما لا يقدّم جديدًا في عمليّة قراءة المجموعة، وكأنّه عنوان خاصّ أو تأليف مجاور للمجموعة من بعيد.
تُبنى الشعريّة عند البالي على مقوّمات عديدة ومشتّتة، أوّلها الشّبه الكبير بينها وبين الأحاديث. ثمّة سرديّة عالية في القصائد، نجدُ أحيانًا أن القصيدة تبحث عن قصيدة أخرى وتسلّمك إليها. هذا عدا عن اللّغة التي تغلِّفُ جدران المجموعة التي هي على درجة عالية من الأناقة. أناقة تطرح بذاتيّتها أسئلة حول مرجعيّتها، وحول الأساس الذي استندت إليه في كتابتها. بالطّبع لا يحملُ السؤال تشكيكًا بالشّعريّة المعروضة أمام القارئ إنّما مردّه رغبة بمعرفة أصول هذه القصيدة ورغباتها وهمومها وبمحاولة اكتشاف سريعة لنوعها الأدبي.
تتوزّع المجموعة على 92 صفحة من القطع الوسط، وتنقسم إلى عدّة أبواب أو فصول. "أشياءُ تقع"، "هكذا يولد الشّعر"، "مشاهد مبحرة"، "غراميّات مرحة"، "أو كما تكلّم"، "رؤيا نهاية الزمان حسب شاعر". تتوزّع القصائد على موضوعات وثيمات متنوّعة بعضها شخصي والآخر شعري يُحاجِج الشّعر ويُسائله ويسعى جاهدًا إلى إخراجه من قوقعته وتساؤلاته المرهقة، يتجلّى ذلك في المشاهد المعروضة.
التوغّل العميق في مجموعة البالي الشّعريّة يفتح ذهن القارئ على أسفار ومنعرجات وأحيانًا متاهات، بعضها لغويّ وبعضها الآخر فكري متمحور حول راهنيّة القصيدة اليوم وفاعليّتها، وأيضًا حول عدميّة هذا الشّعر وروحيّته. يقول البالي في قصيدة أهداها لنيرودا: "فَقدتَ رِفاقَكَ/ سَنواتٍ عِجافًا/ فَقدتَ ذِراعكَ/ بأَي حُلمٍ سَتكتبُ؟/ غَرناطةُ سَهلُ جَماجِمَ/ نِساؤكَ عِشرونَ تَرنيمَةً/ وَواحِدةٌ/ كَسرٌ في رئَةِ الوَقتِ". بهذه الطريقة تعطي القصائد مشاهد ولحظات متعدّدة ومتباينة لا تسلّم نفسها لقارئ بسهولة، بمعنى ما كأنّنا أمام مشروع شعريّة صعبة أو مستحيلة. تحتاج القصيدة إلى أكثر من قراءة.
الصّورة المقدَّمة في "أو كما تكلّمت الشّمس" تندرج ضمن مناخ شعريّ عام مسيطر على المجموعة، المناخ الذي ينحو هاجسه نحو الاسترسال والتنقل بالعبارة والجملة اللامعة باتجاه جعلها محورًا للقصيدة والمتن الشعري. من هنا تغدو القصيدة وكأنّها طالعة من الأشياء لا خارجة عليها، وكأنّها أساسها أو خلاصاتها الواصلة للتوّ. على قدر عال من الانغماس في الأشياء هذه تأتي القصائد مثلًا:" لا أَميلُ للأَشياءِ الصَّغيرَةِ/ رَأسي بوسعِ العَالمِ/ يَسكُنهُ سِربُ سَمكٍ:/ فَوضى زَائدة، فَوضَى/ تُساوِي شَكلًا جَديدًا/ يا مُكعبُ!".
في باكورته يأتي صوت سفيان البالي على شكل زفرات متوترة وحادّة ولكن على طريقتها، هو أقرب ما يكون إلى تلك الغناءات الآتية من أماكن قصيّة وعرة وجافّة أيضًا. بالحيرة والغرائبيّة واللامنطقيّة في ربط الصّور ببعضها البعض، يقدّم سفيان البالي اقتراحه للشّعر. اقتراح تدفعنا قراءته إلى سؤال ملحّ من طراز: ما هي الطريقة التي تُعيننا على قراءة هذا الشّعر؟