قبل نحو 15 عامًا من الآن، دخل الكاتب والشاعر التونسي سفيان رجب (1979) المشهد الأدبي من خلاله مجموعته الشعرية "مؤثرات شعرية". ليتبعها لاحقًا بثلاثة مجموعات حازت الأخيرة منها قبل أيام قليلة من الآن على المركز الثالث من جائزة "محمد عفيفي مطر للشعراء العرب الشباب" وهي لا تزال بعد مخطوطة تكفّلت الجائزة بطباعتها ونشرها.
اختار سفيان رجب منذ البداية كتابة الشّعر، رغم أنّه كان مولعًا بالقصص في طفولته
كيف بدأ القراءة والكتابة الأدبية؟ يقول سفيان رجب: "في الحقيقة، عشت طفولة مختلفة تمامًا عن أبناء جيلي. لقد تربّيت في بيت جدّي، وكان مؤدَّبًا ومن الذين درسوا في جامع الزيتونة أيضًا. كان البيت في حقل زيتون ناءٍ جدًا، وهناك نشأتُ على الحكايات التي كنت أسمعها من الرعاة، وحفظت الكثير من القرآن قبل دخولي إلى المدرسة". يصمت ثمّ يضيف قائلًا: "في السنة الثالثة ابتدائي، كان عمري ثماني سنوات، وكنت أقرأ حينها قصصًا أكبر من عمري، ومنها ألف ليلة وليلة، وتحديدًا قصّة علي بابا واللصوص. عندما قرأت تلك القصّة، قلت لجدّي حينها إنّني سأصبح كاتب قصّة. ومنذ ذلك الوقت، أدمنت القراءة. وكانت لكتب "أصل الدين" لمؤلّفه فيور باخ، و"رسائل إخوان الصفا" الأثر الأكبر على حياتي ورؤيتي أيضًا في الحياة والكتابة معًا".
اقرأ/ي أيضًا: كمال الرياحي.. الحفر في النذالة
إجابة سفيان رجب هذه دفعتني للقول: إذًا، هل الإقامة في منزل جدّك، وطبيعة المكان الذي يقع فيه المنزل، هي المسؤولة عن تكوين هذا الشاعر في داخلك؟ أم أنّ هناك أمرًا آخر قادك إلى هذا الشغف بالكتابة؟ "عوامل كثيرة ساهمت في ولادة الشاعر في داخلي". قال سفيان رجب صاحب "الحدائق المسيّجة" وأكمل: "بعضها داخل الكتب، وبعضها خارجه، ولكنّ طفولتي في بيت جدّي لربّما كانت العامل الأكبر. والآن، أتذكّر تفاصيل هذا المنزل جيدًا، بدءًا من القطرة التي تسقط من سقفه في الليالي الممطرة، وانتهاءً بالهدهد الذي كان يبني عشّه في جدرانه، والذي كانت تربطني بفراخه علاقة صداقة متينة جدًا. أتذكّر أنّ البيت كان مبنيًا على طريقة البيوت الأمازيغية، ومُحاطًا بحقول الزيتون واللوز والرمّان. كان كل شيء جميلًا حينها، وكلّ هذه التفاصيل كانت ولا تزال هي الينابيع التي أغرف منها قصائدي الآن".
اختار سفيان رجب منذ البداية إذًا كتابة الشّعر، رغم أنّه كان مولعًا بالقصص في طفولته. أمّا لماذا الشّعر تحديدًا دون سواه من الأجناس الأدبية؟ يُعلّق ضيفنا قائلًا: "الشّعر هو الإيجاز والتكثيف. وعادةً ما تكون سنوات الشباب التي تغلب عليها الطبيعة الانفعالية والمتشنّجة ميّالة إلى التعبير الشّعري لما فيه من كثافة وإيجاز. ولكنّ الكاتب كلّما اقترب من عمر الحكمة يميل إلى الشرح والحكي، وهذه بعض شروط السرد. وهنا أودّ أن أقول أنّ ما ذكرته هو خطاب الناقد داخلي، لأنّ الشاعر لن يجد إجابة عن سؤال كهذا".
اللحظات التي تسبق مجيء القصيدة عند سفيان رجب، تشبه تمامًا لحظات الهدوء التي عادةً ما تسبق العاصفة. هذا ما يقوله صاحب "القرد الليبرالي" عن طقوس ولادة القصيدة عنده. "أحسّ بميلٍ إلى العزلة، حتّى وإن كنت في زحام البشر. وأيضًا، يقلّ تركيزي في الحديث، وتتشابك في مخيلتي الرموز".
توقفت عند موضوع ولادة القصيدة، وقلت: ماذا بشأن اللغة؟ من أين تأتي لغة سفيان رجب؟ وما هو أكثر ما يشغلهُ في قصيدتك لجهة المضمون والأسئلة؟ يُعلّق الشاعر التونسي مُجيبًا: "فيما يخصّ اللغة، فلغة قصيدتي بسيطة جدًا، وذلك لأنّني أشتغل كثيرًا على الفكرة وطريقة هندستها. وبالتالي، فإنّ اللغة في قصيدتي هي حمّالة أفكار، وقد تتفاعل مع الفكرة لتولِّد ما يفاجئني. وفي بدايات نصوصنا، نكون نحن من نملك اللغة. ولكن حين نتوغّل فيها أكثر، تصير هي من تتملّكنا. ولذلك، نحاول دائمًا أن نستعيد سيطرتنا عليها في نهايات النصوص. وعلى هذا المنوال يتواصل صراعنا القاسي مع اللغة داخل النص".
يضيف: "الكتابة الحيّة هي التي تفكّ الأغلال وتفكّك الألغام، وتحرّر الساق وتمهّد الطريق للإنسان. ولذلك، فإنّ أعداء الكتابة الحيّة هم من يتاجرون بالإنسان. والصراع الحقيقي هنا بين أنصار الإنسان والمتاجرين به، يكمن في منطقة العقل. إذ يبحث السّاسة وأصحاب السلطة على طرق مبتكرة لمحاصرة العقل البشري وتوظيفه لصالحهم، بينما يبحث الشاعرُ عن طرق مبتكرة لتفكيك الفخاخ التي تُحيط بالعقل، وتحريره منها. ويمكننا الحديث هنا عن جدوى الحداثة الشعرية، ودورها الخطير في تقدّم الإنسان وتحرّره من براثن الجهل والخرافة. يمكننا الآن أن نقول للشاعر الغنائي: إلى اللقاء، عد إلى بيتك، انتهى دورك عزيزي. المهمة الآن يتكفّل بها الشاعر المفكّر".
بين أربع مجموعات شعرية، صدرت لسفيان رجب أيضًا رواية تحت عنوان "القرد الليبرالي". ما دفعنا لسؤاله هنا عن الكيفية التي يجمع من خلالها بين الشّعر والرواية معًا، وما الذي أضافه الشاعر في داخله إلى روايته هذه؟ "عملية التنقيب عن الشّعر تكون في القصيدة وتكون في الرواية والقصّة أيضًا. أي أنّه لا حدود للشّعر. وأرى أنّ إقامتي في العالم هي إقامة شاعر، ولا تقلقني الأجناس الأدبية أبدًا، إذ أعتبر أنّ النصّ الشّعري الحديث يحتطب من غابة السرد ومن غابة العلوم الإنسانية أيضًا: الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع والنفس، إلخ. ومن أخشابها يصنع أبوابه ونوافذه. روايتي "القرد الليبرالي" تقوم على فكرة شعرية بالأساس، رغم أّنها مُلغّمة بالتفاصيل اليومية لشابّ متشرّد في العاصمة التونسية. في المقابل، مجموعتي "الحدائق المسيّجة" استفادت كثيرًا من السرد، وقد مثّلت نصوصها مجموعة غرف تُفتح على بعضها البعض، إذا دخلت أيّ غرفة منها، سترى أنّها تمثّل قصيدة نثر، لكن إن نظرت إلى هندسة الغرف من بعيد، سترى أنّها تمثّل نصًّا واحدًا".
سفيان رجب: جائزة عفيفي مطر هي الجائزة العربية الوحيدة الآن التي تراهن على قصيدة النثر
تحوّلت مع سفيان رجب صاحب "شبّاك جارتنا الغريبة" إلى مكان آخر في الحديث، وهو الحديث عن فوز مجموعته "ساعي بريد الهواء" بالمركز الثالث في جائزة (محمد عفيفي مطر للشعراء الشباب العرب) قبل أيام قليلة من الآن. وفي حديثه عن مجموعته هذه، يقول: "ساعي بريد الهواء هي مجموعتي الشعرية الرابعة، وتضمّ خمسين نصًّا كتبتها كلّها بعد الثورة. وفي هذه النصوص، عمّقت رؤيتي التي لامس النقّاد خيوطها الأولى في كتاب "الحدائق المسيّجة" حيث القصيدة تقيم في منطقة فاصلة بين الشعر والفلسفة".
اقرأ/ي أيضًا: عن القارئ
في سياق حديثنا هذا، وقبل نهايته، سألت سفيان رجب عن جائزة "عفيفي مطر"، وما الذي من الممكن أن تُضيفه للشعراء العرب الشباب، فقال: "أعتبر أنّ جائزة عفيفي مطر هي الجائزة العربية الوحيدة الآن التي تراهن على قصيدة النثر. ورهانها هذا يتجاوز مسألة الأجناس الأدبية، ليلمّ برؤية قصيدة النثر بالأساس. وكلّ هذا لا يمكن ضبطه إلّا بإدارة واعية، ولجنة تحكيم متمكّنة من تقنيات النصّ الحديث، وملمّة بتحوّلاته وروافده. ما تضيفه جائزة "عفيفي مطر" للنصّ الشعري والمتوّجين يبدأ من شهادات لجنة التحكيم المكوّنة من نقّاد وشعراء متميزين، وهم: حاتم الصكر، وعبد اللطيف الوراري، وفتحي العبد لله، وأسامة جاد. وهذه الشهادات هي جوائز في حدّ ذاتها".
اقرأ/ي أيضًا: