تنقل سنان أنطون بين الشّعر والرواية والعمل الأكاديمي. افتتح تجربته بمجموعته الشعرية "موشور مبلّل بالحروب" عام 2004، ثم أصدر في العام نفسه روايته "إعجام". في 2010، صدرت له رواية "وحدها شجرة الرمان" التي حاز إثر ترجمتها بنفسه إلى اللغة الإنجليزية على جائزة "سيف غباش- بانيبال" للترجمة الأدبية. وعاد بعد ذلك لكتابة الشّعر حيث أصدرَ "ليل واحد لكل المدن"، ليتبعهُ بعد ذلك بروايتي "يا مريم" التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة "البوكر" العربية. و"فهرس" التي وصلت للقائمة الطويلة للجائزة ذاتها.
- بدأت بكتابة الشّعر، وصدرَ أول ديوان لك عام 2004 "موشور مبلّل بالحروب"، ثم صدر لك بعد ذلك روايتان، "إعجام" و"وحدها شجرة الرُّمان"، ثم ديوان شعر آخر وروايتان. كيف تُفسّر لنا هذا الانتقال المستمر بين هذه الأنواع؟
أري إلى الأجناس الأدبية كآلات موسيقية وهناك مناخ ومزاج يستدعي ويتطلب هذه الآلة أو تلك. فهناك آلة أكثر ملائمة لمزاج أو حالة ما. ليس هناك تخطيط بالضرورة و "الانتقال" عفوي. كانت لدي منذ البداية رغبة في أن أجرّب الكتابة بأكثر من جنس أدبي، وهناك مشروع مسرحية بدأت أفكر بها من مدة وبدأت كتابتها العام الماضي، لكنها تأخرت وأرجو أن تكتمل السنة القادمة بعد الرواية التي أعمل عليها حاليًا. مع كل ما تقدّم فإن ما يجب أن نتذكره هو أن الأجناس تجتمع، في أحيان كثيرة، داخل النص الواحد بغض النظر عن التصنيف. وهذا ما حاولت إنجازه في روايتي الأخيرة "فهرس".
سنان أنطون: الأجناس الأدبية تجتمع، في أحيان كثيرة، داخل النص الواحد بغض النظر عن التصنيف
- ما السر الذي يحمله الشعر ليكون نقطةَ بداية، الكلماتِ الأولى إن جاز التعبير، عمومًا لكل من يدخلون عالم الكتابة؟
لا أعتقد أن الشعر نقطة بداية لكل من يدخلون الكتابة قاطبة بالضرورة. الشعر يمنح الذات صوتًا وفضاء تلتحم عبره وفيه بالوجود وبالآخرين. إنّه صلاة وجودية، كما قال والاس ستيڤنس. وله وقع سحري. كما أن الهالة التي تحيط بالشاعر والهالة ومكانته في المخيال الجمعي قد تغري الكثيرين بمحاولة اقتحام مملكته. الشاعر الأمريكي الكبير تشارلز سيميك يقول إنه بدأ بكتابة الشهر لكي يحوز على إعجاب البنات في مراهقته. لا شك أن الشعر كان إلى عهد قريب مدخلًا أساسيًا وعتبة لمن يرومون الدخول إلى عالم الكتابة بالعربية. وهذا يعود لأهمية الشعر ومنزلته الأيقونية في الثقافات العربية وتاريخها. لكن الأمر بدأ يتغيّر في السنين الأخيرة بسبب هيمنة الرواية. لكن الاستسهال السائد، سواء بالنسبة لكتابة الشعر أو الرواية، مخيف وخطر جدًا.
- غادرت العراق عام 1991، لتقيم في نيويورك، لكنّ أعمالك لا تُغادر العراق. كيف تجيد الكتابة عن مكانٍ في مكان آخر؟
تركت العراق ولكنه لم يتركني. لا أعتقد أن في الأمر غرابة، بالنسبة لي على الأقل. لقد عشت سنين التكوين الأولى، وهي الأهم في حياة المرء، في العراق (23 سنة). هناك من يهاجر ويحاول أو يقرر الابتعاد أو حتى الانقطاع عن الوطن الأول لأسباب عملية أو أيديولوجيّة. وهناك من يفعل العكس. الأمر يرتبط أيضًا بهواجس المرء وانشغالاته وانحيازاته، إن صح التعبير. الذاكرة بئر عميقة ينهل منها الكاتب. حملت معي من العراق أرشيفًا من الصور والمشاهد والأغاني، أتلذذ (وأتألم) وأنا أتجول في مساحاته. وسائل التواصل الاجتماعي والتطور الهائل للتكنولوجيا يسهل مهمة من يعيش في أكثر من مكان.
- تتناول رواياتك ما يمرُّ به العراق من أحداث وأزمات. ومع رواية مثل "يا مريم" التي تناولت حادثة تفجير كنيسة "سيدة النجاة" وما مرَّ به المسيحيون في تلك الفترة، ألا تخشى أن تقع الكتابة في فخ التجاذبات الطائفية؟
الأمر يعتمد على المقاربة وعلى تموضع الكاتب نفسه وموقفه وموقعه من الطائفية عمومًا ونظرته إلى خطابها وهيمنتها. هناك من يكتب عن مجتمعات تمزقها الطائفية لكنك لا تجد أي أثر لها في النص، فكأنهم يكتبون عن عالم آخر مؤمثل! وهذا هروب. وهناك، بالمقابل، من يرسّخ الطائفية، بإعادة إنتاج صور نمطية. التحدّي هو كيف تكتب عن واقع معقد ومتقلّب. لقد ظهرت الطائفية في بعض القراءات والمراجعات ولدى بعض النقاد الذين قاربوا الرواية على أنها رواية كتبها "روائي مسيحي عن المسيحيين العراقيين". يعني قراءة على الهوية. تنطلق من اسم عائلة الكاتب الذي يشير إلى الديانة التي ورثها! وسبق أن ذكرت أنها رواية عراقية.
- هناك تهميش واضح ومعاملة نقديّة متعالية للروايات التي لا تزال بعيدةً عن الجوائز، بينما نرى بوضوح احتفاءً وتسليطًا للضوء بكثرة على الأعمال الحائزة على جوائز، رغم أن كثيرًا من الأعمال التي طُردت من فردوس الجوائز أرفع قيمة من أعمال أخرى نالت حظوة مبالغًا فيها رغم تدني قيمتها الفنية، فهل باتت الجوائز معيارًا أدبيًا؟
للجوائز دائمًا سلطة ثقافية ورأسمال رمزي (إضافة إلى رأسمالها المادي) في كل أنحاء العالم. وهي تؤدي إلى تسليط الأضواء على أعمال دون غيرها وتمنحها شعبية ونجاحًا مؤسساتيًا. وتثير القرارات التي تتخذها لجان التحكيم جدلًا وانتقادات لخلاف حول القيمة الأدبية للأعمال، التي لا تحددها دائمًا الجوائز. هذا يحدث خارج العالم العربي أيضًا. الفرق هو في مستوى المهنية والشفافية. وهذه شحيحة أو معدومة في معظم الحالات في العالم العربي. أضف إلى ذلك اختفاء النقد الأدبي وموت الملاحق والصفحات الثقافية. كل هذا وعوامل أخرى يضخّم دور الجوائز (وعددها، بالمناسبة، ضئيل، إذا أخذنا بنظر الاعتبار الرقعة الجغرافية التي تمثلها) ويجعلها تحتكر الساحة الثقافية.
سنان أنطون: ما تفعله الرواية هو خلق عالم "بيني" تتداخل فيه الكثير من الأضداد والثنائيات
- نمير، بطل روايتك الأخيرة "فهرس"، يُشبِهك إلى حدٍ كبير، حيث إنه أستاذ جامعي يدرِّسُ الأدب العربي في جامعات أمريكا، كما أنّهُ مرَّ مثلك على جامعتي "هارفرد ونيويورك"، ويفكِّرُ في كتابة رواية عن مغسّل للموتى، وهذا ما حدث في روايتك "وحدها شجرة الرمان". هل الأمر مقصود؟ هل الرواية سيرة لرواية أخرى؟
نعم يشبهني كثيرًا ولكنه يختلف عني أيضًا. هناك تفاصيل في شخصية نمير لا علاقة لها بي. ولولا السيرة التعريفية التي توضع عادة في مقدمة كتب "دار الجمل" لما كان الموضوع بهذه الأهميّة. لعبة وجود الكاتب كشخصية في روايته ليست جديدة البتة، ومن المهم الانتباه إلى التفاصيل، ففي رواية "فهرس" لا ينجح نمير في كتابة رواية عن تغسيل الموتى، وتظل الرواية حبيسة الأدراج لأن علاقته بالكتابة إشكالية والرواية الوحيدة التي يكتبها، في النهاية، هي "فهرس". ما تفعله الرواية هو خلق عالم "بيني" تتداخل فيه الكثير من الأضداد والثنائيات، ومن بينها الواقع والخيال.
- قلت سابقًا إنّ الرواية العراقية هُمِّشتْ، ولم يُعطها النقد العربي حقها. هل لا يزال هذا التهميش مستمرًا؟
وهل ما زال هناك "نقد عربي"؟ نعم، بالطبع. هناك مركزيّات وتراتبية معينة وسردية "رسمية" لتاريخ الأدب العربي الحديث ومسارات تطوره ومحطاته المهمة يعاد إنتاجها منذ عقود طويلة. يلاحظ المرء ذلك حتى في حقل دراسات الأدب العربي في الأكاديمية الغربية. تفاقم الأمر بفعل الخراب الذي أوقعته الدكتاتورية والحروب بالعراق والدمار الذي سببه الحصار من عام 1990 وحتى 2003 والذي عزل العراق عن العالم بأكمله. وجاء الغزو والاحتلال ليفكك الدولة العراقية ويسدد الضربة القاضية لها. النقد الأدبي والثقافي يتأثر بوجود مؤسسات ومنظومات ومنابر في نهاية الأمر.
اقرأ/ي أيضًا: