أن تقترن سيرة ثورة بسيرة شخص فذلك لا يكون إلا عندما يريد التاريخ أن يبالغ بإضفاء تراجيديا من نوع خاص على تلك الثورة كما على ذلك الشخص معًا. في تاريخ الأحداث الكبرى الثورية والتحررية يظهر شخص ما، أو يتم تصنيعه، ليبدو قائدًا للحدث ومحركًا له، لكن ذلك بدا، غالبًا، على أنه نوع من صناعة سجل أو توسيع سجل يقرر أو يحفظ أثر الفرد في التاريخ.
عندما رأى الساروت أن النظام يواجه السوريين بالقتل تخلى عن طموحه في أن يكون رياضيًا متفوقًا كحارس لنادي الكرامة بحمص وحارس لمنتخب الشباب السوري، وانضم لثورة الكرامة
الأشخاص المحفوظون في ذلك السجل هم قادة، ومثقفون، وأصحاب مشاريع، ونبويون، وأصحاب كاريزما، ومتفوقون... وما من وسيلة للتحقق من صحة هذه الإضفاءات السحرية على أولئك الأشخاص، إذ إن الشعوب، خاصة في أوقات الشدة، تحتاج للعودة إلى ذلك السجل وتصديقه والإعجاب به. هكذا تبدو مسيرة الأحداث الكبرى الانعطافية في التاريخ، لكنها في هذه الحالة هي مجرد أحداث انعطافية تاريخية قد تكون عظيمة ودفعت الشعوب لأجلها أثمانًا باهظة، لكنها -على نحو ما- خالية من التراجيديا. التراجيديا تنطوي على انعطافات حادة، أحيانًا تبدو مؤلمة وأحيانًا مفرحة، وعلى هزائم وخيبات أمل وبكاء ونشيج وإصرار وتراجع وفقدان أمل وبدء جديد وهكذا... في دوامة ثقيلة الوطء لا يعيشها سوى الناس الذين لم يعد لديهم سوى مواجهة الموت والإبادة بكافة السبل والأشكال، الناس الذين لم يعد أمامهم سوى طريق واحدة هي الدفاع حتى النهاية عن أمهاتهم وآبائهم وأطفالهم وزوجاتهم وحبيباتهم وجيرانهم وأصدقائهم، فإما أن يدافعوا أو يموتوا جميعًا. التراجيديا تتكثف عندما يعرف هؤلاء الناس أنهم سيموتون هم ومن يدافعون عنهم على نحو شبه مؤكد، أو مؤكد! ولكن لا خيار آخر. إلى هذه التراجيديا العاصفة ينتمي عبد الباسط الساروت.
اقرأ/ي أيضًا: الثورة السورية تخسر حارسها.. مقتل عبد الباسط الساروت في ريف حماة
مع مجموعة صغيرة من الرجال خرج يوسف العظمة ليدافع عن سوريا بمواجهة الجبروت الفرنسي وأبهة السلاح والجيش والتنظيم، وكان عارفًا أنه سيُقتل، لكنه كان عارفًا، أيضًا، أنه يؤسس لقيمة كبرى لدى السوريين، وأنه يُعلي من شأن الكرامة السورية. وقد قتل العظمة وترك كرامة السوريين محفوظة وعالية.
وبعد ذلك بزمن طويل اعتدى الأسد على كرامة السوريين، وبعد ذلك بزمن طويل أيضًا ثار السوريون لأجل كرامتهم لتبدأ ملحمة تراجيدية تعد واحدة من أقسى، إن لم تكن أقسى التراجيديات التي عرفها الناس في عصرهم الحديث. وظهر عبد الباسط الساروت ابن الـ 19 عامًا كأحد شخوص هذه الملحمة التي ستبدو في زمن ما وكأنها مكتوبة في زمن هوميروس والأزمان الملحمية.
سيرة الثورة وسيرة الساروت هي سيرة الإرغام. فحين لم يكن للسوريين خيار آخر لاسترجاع حقوقهم، واسترداد كرامتهم التي أهدرها نظام الأسد الهمجي، وحين تسكّرت كافة الأبواب والطرق والنوافذ والمسالك أمامهم لجؤوا إلى العلاج الأخير: الكيّ. الثورة هي الكيّ الذي يتم اللجوء إليه كآخر العلاجات. وعندما رأى الساروت أن النظام يواجه السوريين بالقتل تخلى عن طموحه في أن يكون رياضيًا متفوقًا كحارس لنادي الكرامة بحمص وحارس لمنتخب الشباب السوري، وانضم لثورة الكرامة: قائدًا للمظاهرات في حمص، ومحركًا لها، ومغنيها. قال إنه خرج مع الناس بداية لأجل درعا كنوع من "الشهامة والنخوة". وأصيب مرارًا إصابات قاتلة، لكنه نجا كشخوص الملاحم. وعندما حوصرت مدن سورية كثيرة، وتدمرت مدن أخرى، ولجأ الناس للسلاح إرغاميًا في البدء، حمل الساروت السلاح وأسس كتيبة "شهداء البياضة" التي أكد أنها لا تنتمي لأي تنظيم ولا لجسم عسكري أو سياسي، وكان هدفه فك الحصار عن حمص، وإدخال الطحين لأهلها المحاصرين الجائعين. وفي الوقت ذاته فعلت الثورة الشيء نفسه: حملت السلاح للدفاع عن الناس وفك الحصار عن المدن: خطان متوازيان ومتلاقيان ومتشابكان ومتوحدان بالوقت ذاته. بعد سنة ونصف السنة من حصار حمص خرج 62 مقاتلًا لفك الحصار ومهاجمة مبنى المطاحن لإحضار الطحين إلى 800 عائلة محاصرة و3000 نسمة، إلا أن النظام استطاع كشف العملية وتدمير النفق الذي تسلل منه المقاتلون واستشهدوا جميعهم في تلك المعركة الإنسانية التي سميت "معركة الطحين". وفي غمرة سيطرة النظام على المناطق التي خرجت عن سيطرته أُبعد الساروت إلى الريف الشمالي لحمص. وانطلاقًا من هنا سيبدأ خط آخر في هذه التراجيديا الحزينة لكنها شاهقة الإرادة. مسيرة يأس وتغلٌّب عليه/ يأس وتغلُّب عليه بلا هوادة.
ومثلما فعلت النزعات الجهادية بثورة الناس، فعلت بالساروت، فقاتلته جبهة النصرة، ولاحقته، مثلما قاتلت الناس ولاحقتهم.
بعد الخروج من حمص نوى الساروت الالتحاق بداعش لأنها كما قال: "دولة" وإنها "تقاتل"، ربما يقصد أنها منظمة وتقاتل باتفاق وخطط مركزية. ثم أكّد أنه لم يكن يعرف هذا التنظيم بشكل جيد نتيجة لحصاره الطويل في حمص، لكنه عندما عرف أنها "تقتل الناس ومن كان معه في الحصار ويأكل معه الحشيش" كف عن الالتحاق بها. وكنوع من القتل الرمزي له، أشاع مؤيدو داعش أنه التحق بها، وأشاع بعض مؤيدي الثورة أنه التحق بها، على الرغم من أن داعش لم تعلن ذلك رسميًا، ولا هو أعلن ذلك، وعلى الرغم من نفيه مرارًا التحاقه بالتنظيم الإرهابي عبر العديد من الفيديوهات والمقابلات التلفزيونية إلا أن هذه التهمة لم تزل تلاحقه حتى بعد استشهاده.
ثمة بعد رمزي آخر في استشهاد الساروت وهو الحزن العميم الذي سيطر على معارضي النظام بتوجهاتهم الفكرية والإيديولوجية والسياسية المختلفة
لقد قاتل الثائر السوري ومنشد الثورة مع العديد من الفصائل التي تحسب على الإسلاميين وبعضها يحسب كفصيل جهادية، لكنه قال مرة في حوار تلفزيوني: "إذا كانت الثورة هي فصائل وفساد وتنفيذ برامج دول واقتتال فصائل بين بعضها البعض فأنا أغسل يدي من هذه الثورة، لكن هذه الثورة هي ثورة شعب"، وأنه سيقاتل النظام أينما وجد. وهنا نستذكر قول غابرييل غارسيا ماركيز: "إن لحظة من الظلام لا تعني أن الناس قد أصيبوا بالعمى". الروائي الياس خوري هو من ذكّر مرة بهذا القول لماركيز عندما شرح تفهمه لواحد من مآلات الساروت وقد تخلى عنه الجميع. وبالفعل تواجه الشعوب الإبادة بكافة الوسائل المتاحة.
اقرأ/ي أيضًا: نبيل الملحم: أغار من عبد الباسط الساروت
بعد سنة وشهرين على مغادرته سوريا والإقامة في تركيا عاد الساروت لميادين القتال مثلما يحدث في التراجيديات، واستشهد خلال دفاعه عن مدينة حماه، استشهد بريف حماه خلال حملة الإبادة التي يشنها نظام البراميل مدعومًا بمشاركة الفاشية الروسية على إدلب وريف حماه، استشهد بعد أن مر بكل ما مرت به الثورة، بحيث يمكن لتاريخه الشخصي أن يكون تاريخًا للثورة. ليس بمعنى أن يحل محل الثورة ويحل محل الناس، إنما بمعنى البعد التراجيدي المعقد الذي غلف مسيرته، وهو ذاته البعد التراجيدي الذي غلف مسيرة الثورة، وبمعنى أنه لو تحدثنا عن مسيرته الثورية فإننا نكتشف بالوقت ذاته مسيرة الثورة.
ثمة بعد رمزي آخر في استشهاده وهو الحزن العميم الذي سيطر على معارضي النظام بتوجهاتهم الفكرية والإيديولوجية والسياسية المختلفة، ما يشير إلى أن ثمة ما يجمع التناقضات والتوجهات والأمزجة على الرغم من حالة العصاب التي تسيطر على المشهد العام في سوريا.
الزمن الملحمي يعود في انبثاقات قاسية كاختبار صفيق من التاريخ على إمكانية حلوله في الأزمنة والأمكنة جميعها.
اقرأ/ي أيضًا: