لن تتخلص قناة "ال بي سي" اللبنانية من عنصريتها، فهي ابنة سلوك متجذر. لا يمكن في سهولة استئصاله، حتى لو تبين أن رئيس مجلس إدارتها بيار الضاهر، يحاول أن يضفي على المؤسسة "لمسة" من التنويع، من خلال الميل إلى استقطاب مراسلين من بيئات غير مسيحية، أو لهم تجارب صحافية في مؤسسات تتغنى بيساريتها. إلا أن هذا التوجه لم يسفر سوى عن تناقض جليّ في سياسة المحطة. فهي ترعى النظام اللبناني بكل مقوماته واستفادت من علاقاتها به وسيرّت له عقليته النفعية، وليس برنامج "كلام الناس" إلا واحدًا من هذه البرامج التي أرست علاقة "طيبة" بين المحطة والنظام اللبناني الفاسد، من خلال وسيطها الإعلامي، مارسيل غانم.
ومهما تعددت تجارب القناة، فهي تبقى لا ترقى في أسلوبها ومضمونها إلى العمل الإعلامي الشامل، على الرغم من قوتها التقنية وتطوير كادراتها وأستديوهاتها. فهي انطلقت كقناة تنطق باسم "القوات اللبنانية" وتحولت إلى قناة تحاكي في برامجها الاجتماعية الشارع المسيحي، وصولًا إلى محاولتها التقاط المشاهد العربي من خلال برامج الترفيه، مستعينة بشقيقة زوجة الضاهر، رولا سعد، التي استنسخت برنامج "ستار أكاديمي"، ودفعت به القناة لتكون قناة ترفيه عربية.
أرست "ال بي سي" علاقة ممتازة مع رموز النظام الطائفي والفاسد في لبنان من خلال برنامج "كلام الناس"مثلًا
وتفتقد المؤسسة لأهم المعايير في اعتبارها قناة "لبنانية جامعة"، أي أنها توحدهم على مفاهيم ثابتة. رغم أن أي قناة في لبنان، الرسمية والخاصة منها، لا تقارب أي إجماع وهي في واقع الحال، تعبيرات صارخة عن مصالح خاصة أو تقاطعات مع محاور خارجية، تلقي خطابات طائفية ومذهبية ومناطقية وتمارس التفرقة والأحكام المسبقة وتؤجج الخلافات إلى حد القتل. وهو شيء يشبه ما تذهب إليه المحطة، في برامجها السياسية ونشراتها الإخبارية، وتقاريرها، التي تخاطب ذهنية لا تزال تعيش زمن الحرب الأهلية ومخاوف المتاريس، وهي بطبيعة الحال تخاطب إرثها الأول. أي انطلاقتها من رحم "ميليشا" شاركت في الحرب، حين كانت بيد سمير جعجع، وقبل أن ينقلب "بارون الإعلام" اللبناني بيار الضاهر، عليه ويجد ضالته في آل الأسد لحمايته والتحصل على القناة.
اقرأ/ي أيضًا: قانون الإعلام اللبناني.. قيود مغلفة بالإصلاح
و"ال بي سي"، تبقى صوتًا أحاديًا يخاطب نفسه، حتى لو اعتبرت نشراتها المسائية أقرب إلى شجون المواطن اللبناني، بعد أن أرسى خالد صاغية، في رئاسة تحريرها، دمجًا بين ما يريد الضاهر، وما يهتم به المجتمع المدني والمجموعات الشبابية (خصوصًا في مرحلة الحراك اللبناني). فصاغية صحافي آت من بلدة صغيرة في محافظة عكار الفقيرة، وتأثر بالحزب الشيوعي، وترك جريدة "الأخبار" غاضبًا، من سياستها التحريرية في الملف السوري. ليستقر في أحضان الضاهر، الذي أراد أن ينتقم من سياسة جورج غانم التحريرية، والذي عرف عنه كلاسيكيته في المقاربة الإعلامية، وقربه من الطبقة السياسية الحاكمة. إلا أن الضاهر لم يكن ليضيع عليه موجة "ربيع لبنان"، فكان يريد امتطاء الموجة، فوجه عبر صاغية "ماكينة" كاملة لدعم الحراك.
لكن محاولة صاغية، في وضع خطوط جديدة، للنشرة لم يلائم فعليًا الروح الأولى للمؤسسة، فخرج تاركًا المهنة خلفه إلى برلين للعمل على مشروع كتاب، بعد أن فهم أن الضاهر، ليس سوى رجل أعمال، يعمل على إثراء ممتلكاته واستثمار مؤسسته لمزيد من الأرباح. في وقت، عادت لارا زلوم، وهي اليد اليمين لزوجة الضاهر رندة، إلى استلام "دفة" القرار في النشرات. وعادت قبضتها ونفوذها للإمساك مبدئيًا بما يمر وما لا يمكن أن يمر في قناة المسيحيين الثانية، بعد أن تصدرت قناة "ام تي في" القائمة.
تتسم تقارير "ال بي سي" الإخبارية بنزعة عنصرية تجاه الفلسطينيين والمخيمات في لبنان واللاجئين السوريين
فزلوم، المعروفة بيمينيتها وقرب أفكارها من "العونية" السياسية، وتآلفها مع ممارسات "حزب الله" جددت وضع سياسة صارمة، تقضي بالتخفيف من التعبئة ضد نظام الأسد والهجوم عليه، وفي الإكثار من التقارير التي تنادي بحقوق المسيحيين، والهجوم طبعًا على اللاجئين الفلسطينيين، وليس آخر تقليعات زلوم، سوى السماح بمرور تقرير يصف حماس بـ"الإرهابية" وبأن عملياتها الجهادية هي عمليات "إرهابية".
ليس جديدًا على القناة أصلًا الهجوم على الفلسطينيين، فهم أعداء أول للضاهر، الآتي من خلفية حربية، حين قاتل مع "الكتائب" بسلاحه وصار لاحقًا اليد اليمين لسمير جعجع، في الإعلام الحربي. فمهما تخفف الضاهر من تاريخه، فهو لزامًا يعود إليه، من خلال نفوذه وسلطته في الرأي العام، مستخدمًا قناته لبث الأحقاد ضد الفلسطينيين والمخيمات واعتبارها مصدرًا أول للإرهاب. ويبدو أن "اسكتشات" شربل خليل في برنامجه "بسمات وطن"، الذي يعرض على القناة، واحدًا من متاريس الضاهر للهجوم على الفلسطينيين، والأمثلة كثيرة، ليس آخرها تماهي خليل في اعتبار المخيمات بؤرة للإرهاب مشجعًا على إقامة جدار عازل حول مخيم عين الحلوة.
ولكن "ال بي سي" لا ترحم اللاجئين السوريين أيضًا، فهم في نظرها اليوم يشكلون منافسًا للبناني على لقمة العيش. فتعمد من وقت إلى آخر، إلى تسجيل مواقف غير مباشرة من وجودهم واعتبارهم سببًا للأزمات المتتالية في لبنان، وهو حكم فيه كثير من العنصرية والإجحاف. ويبدو أن السؤال الذي طرحته القناة كاستفتاء يأتي في هذا السياق. حين سألت: "هل تؤيّد عدم بيع السوريّين من محالنا التجاريّة للتضييق عليهم؟"، سؤال لا يمكن تصديقه فعليًا من مؤسسة تدعي الدفاع عن الناس وحرياتهم. على أي حال، لا تشي تجربة "ال بي سي" إلا كونها استنفاعًا شخصيًا يحاول عبره الضاهر، تبرير مسيحيته وشوفينيته، فهي لم ولن تكون يومًا قناة لكل الناس. هي فئوية وضيقة لا بل غارقة في ظلامية الذهنية اليمينية.
اقرأ/ي أيضًا: