ينقلب المؤرخ الإسرائيلي النقدي، شلومو ساند، في كتابه "نهاية المثقف الفرنسي" على أساطير كثيرة صيغت حول المثقفين الفرانكفونيين، الذي يقول إنهم ولدوا في فرنسا إما على حدود العداء لليهودية في القرن الماضي، أو على حدود الإسلاموفوبيا في مطلع القرن الواحد والعشرين. وفي هذه المراجعة المنشورة عبر صحيفة الغارديان البريطانية للكتاب، يكشف ستيوارت جيفيرز، عن تشابه الحقبتين العنصريتين، وصورة الضحايا فيهما، من البروباغاندا المعادية للسامية ضد اليهود، إلى أحداث مجلة شارلي إيبدو، التي دأبت على تصدير دعاية عنصرية ضد الإسلام.
في نوفمبر 1980، خنقَ ليوي ألتوسير زوجته في مدرسة النخبة العُليا بباريس. ولم يُحبَس الفيلسوف الفرنسيّ آنذاك جرّاء تلك الجريمة، لكنّه قضى أربع سنوات في مشفى سانت آن. لِماذا؟ وفقًا للمؤرخ الإسرائيليّ شلومو ساند، فقد كان ذلك ضربًا من تبجيل فرنسا لمثقفيها ما من شأنه تخويل المؤسّسة، بما فيها وزير العدل، بأن تتغاضى عن القانون. لم يكن الافتراض ببساطةٍ مسموحًا بأنّ "فيلسوفًا بوزن ألتوسير قد ارتكب مثل هذه الجريمة؛ لذا توجّب اعتباره تلقائيًّا مختلًّا عقليًّا".
بحاجج ساند بأنّ المثقف الباريسيّ الحديث قد ولدَ في خضمّ رهاب اليهوديّة، أمّا حاليًا ففي خضم رهاب الإسلام
وقبلها بعشرين عامًا، استفاد جان بول سارتر من مواقف مماثلة. ففي عام 1960، طلبَ الوجوديّ الفرنسيّ من الجنود الفرنسيين أن يرفضوا القتال في حرب الاستقلال بالجزائر. وردًّا على هؤلاء الذين طالبوا بمحاكمة سارتر، قال الرئيس ديغول: "لا أحد يسجنُ فولتير".
أمّا بالنسبة إلى هؤلاء الذين يحيون على الضّفة الأخرى من القناة، فإنّ احترام فرنسا لمثقفيها يُعدّ غامضًا ومشوشًا. فلو ضربنا مثلًا بأنّ جيرمن جيرير قد خنقت شريكها، أو أنّ ريتشارد دوكينز قد حثّ أتباعه المُلحدين على حرق المساجد والكنائس، وكنتم تشكّون في ذلك، فإنّهم سيُحتجَزون.. لماذا هذا الاختلاف؟ يشير ساند إلى أنّ النزعة الإنجلوفونيّة المعادية للثقافة إنّما هي من إرث البروتستانتيّة: فمنذ أن تخلّصنا من التراتبيّة الإكليريكيّة للكاثوليكيّة، فقد شغفنا بتكرار هذه السّلطة مع نظيرها العلمانيّ. وعلى العكس من ذلك، فإنّ المثقفين الفرنسيين "قد ورثوا كلًّا من دور قاضي المحكمة، الأمر الذي مكّنهم من قول ما يشاءون أينما كانوا دون خوف من الملاحقة بالعقاب، وأيضًا دور الكاهن، مما مكّنهم من العمل كوسيط بين المؤمن والحقيقة الإلهيّة".
اقرأ/ي أيضًا: التعليم الديني في فرنسا.. فصل "الإسلام" عن الدولة؟
يبدأ ساند تاريخه بقضيّة داريفوس وينهيه، باستياءٍ، بعام 2015، حيث تسير المؤسسة الفرنسيّة في تضامنٍ مع العمّال القتلى الذين ماتوا جرّاء أحداث مجلة شارلي إيبدو، وحيث الدعوات القائمة بترقية لميشال هولكبيك بسبب روايته المسمّاة "الخضوع" (وهي الرواية التي تتخيل فرنسا وقد تحوّلت محض مقاطعة لدولة خلافة على البحر الأبيض المتوسط). يحاجج ساند بأنّ "المثقف الباريسيّ الحديث قد ولدَ في خضمّ معركة ضدّ رهاب اليهوديّة، أمّا شبح المثقف في بدايات القرن الواحد والعشرين فإنّما يحدث إثر صعود في رهاب الإسلام".
وعلى الرغم من أنّ هناك كتبًا كثيرة قد كُتبت عن نهاية المثقف الفرنسيّ، إلّا أنّ كتاب ساند يمثل إضافة مرحبًا بها منذ أنْ كُتبت، ليس من قبل المطلعين فحسب، بل أيضًا من قبل الجمهور العادي. وكأستاذ للتاريخ يعمل في جامعة تل أبيب حاليًا، فقد ابتدأ ساند حياته العملية كصانع لمحطات الراديو في إسرائيل قبل دراسته في فرنسا وماضيه الذي يصبغ تفكيره الحالي. لقد كان عمله البحثيّ المبكر منصبًا على جورج سوريل، والذي كان التنظيم الذاتيّ لمكان العمل أمرًا أساسيًا لثورته الاشتراكيّة. يَرثُ ساند شكوكه المتعلّقة بأنّ العمّال بحاجةٍ لأنْ يُقادوا إلى فردوسٍ شيوعيّ عن طريق مخرّبي الليفت بانك.
لكن في أوّل الأمر، عندما قرأ ساند ألبرت كامو وسارتر وسيمون دي بوفوار، فقد أُغويَ بهم، يقول "لقد أبهرني الطّيش الرومانتيكيّ لهؤلاء الذين عاشوا في الكتابة، من خلال أَمْثلة الالتزام الفكريّ في خدمة قضايا عادلة، وضدّ الستار الفاتن لمدينة النّور".
يبدأ ساند تاريخه بقضيّة داريفوس وينهيه، باستياءٍ، بعام 2015 مع أحداث شارلي إيبدو
لكنّه، لاحقًا، ثارَ على هذا النمط. فغدا يعتقدُ بأنّ مواقف دي بوفوار وسارتر المناصرة لليهود بعد الحرب إنّما كانت وليدة الضمير الفاسد الناجم عن عدم فعل أيّ شيء ذي جدوى لمعادة النازيّة أو لمساعدة اليهود. وبالفعل، أثناء الاحتلال النازيّ، أبدت بوفوار مثالًا يُنكر أنّها كانت يهوديّة من أجل أن تحتفظ بكونها معلّمة في مدرسة ثانوية، في حين أنّها، هي وسارتر، أنكرا حبيبتهما السابقة بيانكا لامبلين، وهي يهوديّة بولنديّة اعتُقلت طوال فترة الحرب في معاقل البوليس السريّ النازيّ بجنوب فرنسا. يكتب ساند مزمجرًا: "إنّ النقاشات المستعرة حول الأصالة والوجوديّة في مقاهي سان جيرمان دي بريز لم تدع لهما وقتًا لأنْ يهتمّوا بالتجربة الوجوديّة لعشيقتهما المنبوذة والمضطهدة، والتي قُتِل كلٌّ من جدّها وعمّتها في معسكرات الاعتقال".
كما إن كلود لانزمان، عشيق دو بوفوار، يُتَّهم أيضًا بسبب فيلمه الوثائقيّ "شواه" عام 1985. يدعونا الفيلمُ، كما يحاجج ساند، إلى الاعتقاد بأنّ "اضطهاد اليهود (واليهود وحدهم) إنّما حصلَ في شرق نهر الراين، ولا سيّما في بولندا، وهي البلدُ المعادية للفكر والمعادية لليهود". أمّا اليهود الذين اعتُقِلوا من قبل السلطات الفرنسيّة في درانسي في طريقهم إلى أوشفيتز فلم يظهروا في فيلم لانزمان عن المحرقة، الأمر الذي كان بالنسبة إلى ساند على الأقل "منسجمًا بشكل تامّ مع الصورة التي أراد الأدباء الباريسيّون أن يقدموها لأنفسهم".
أمّا ما يعوزُ كتاب ساند، رغم غياب الإحالة الطاغي، فهو معنى ما جعل الإنتاج الفرنسيّ الفكريّ إنتاجًا مبهرًا للغاية. ونادرًا ما تتمّ الإشارة في كتابه إلى كلود ليفي ستراوس أو رولان بارت أو جاك دريدا أو دولوز وغوتاري، ووحده فوكو يحتلّ مركز الصدارة. لقد أخبرني الفيلسوف الماوويّ ألان باديو ذات مرّة بأنّه في حين أنّ الفلسفة البريطانيّة في فترة ما بعد الحرب كان لها "مظهر هادئ"، فإنّ الحياة الفكريّة الفرنسيّة في الحقبة ذاتها كانت بمثابة مغامرةٍ جامحة. كنتُ أودّ أن أقرأ قصّة هذه المغامرة، بيد أنّ ساند لا يقصّها علينا.
اقرأ/ي أيضًا: الولايات الإسلاموفوبيا المتحدة
على العكس من ذلك، يستكشف ساند الحقيقة المربكة بأنّه في حين أنّ نوعيّة الحياة الفكريّة الفرنسيّة في الألفيّة الجديدة قد انهارت، إلّا أن سمعتها لا تزال باقية. ويقارنُ ساند المثقفين المقرّبين لوسائل الإعلام مثل هولوبيك، وإريك زمور، بالكتّاب المساندين للنازيّة مثل روبرت بارسليش وبيير ديرو. فمثل هذه الشخصيات السالفة، كما يحاجج ساند، يتشبث بفرنسا "المتخيّلة تماماً" ويتوق إلى أن تكون فرنسا خلْوًا من الآخر. في عام 1948، كان الآخر هذا هم اليهود، أمّا في 2015، فهو الإسلام.
مع أن هناك كتبًا كثيرة عن نهاية المثقف الفرنسيّ، إلّا أنّ كتاب ساند يمثل إضافة مرحبًا بها
بالنسبة إلى فينكيلكروت، مؤلف كتاب "الهويّة التعيسة"، فإنّ انهيار النظام التعليميّ في فرنسا والثقافة العالية يفسّر انحدار بلده: "لم نعد نعلم أن المشروع الكولونياليّ سعى أيضًا إلى تعليم، وجلب الحضارة إلى البرابرة"، كما يقول. وبالنسبة إلى زمور، مؤلف كتاب "الانتحار الفرنسيّ"، فالمشكلة هي أنّ فرنسا أضحت أكثر ميلًا نحو النساء والنّسويّة، ورغبويّة، وفردانيّة. وبالنسبة إلى كليهما، فإنّه في خطى فرنسا الخاوية يكمن الآخرُ المخيفُ في شكل الإسقاط العنصريّ لمخاوفهم الخاصّة، فقد اعتبر المثقفون الفرنسيّون الإسلاميّ البربريّ مفتول العضلات العازم على تدمير كلّ شيء، ظاهريًّا، أمرًا عزيزًا وأصيلًا.
ربّما يحتاجُ الأمر إلى يهوديّ من الخارج لتشخيص سَقم الحياة الفكريّة الفرنسيّة. وقُرب نهاية الكتاب، يُلقي ساند نظرةً على كارتون النبيّ محمّد المنشور في صحيفة شارلي إيبدو، الذي يُظهره كـ"شخصيّة ملتحية وحشيّة النظرة ملتفّة في جِلباب أبيض، وعيناه مخفيّتان ويمسكُ بسكّين حادّ طويل". لقد أبصرَ ساند هذه الصورة من قبل. أين؟ في صور الكرتون الكارهة لليهود المنشورة في تسعينيّات القرن التاسع عشر، لإثارة الحساسيات المعادية للساميّة في قضيّة دارفوس. فـ"من المُدهش أن نرى إلى أيّ حد يتشابه اليهود (الساميين) في الماضي مع المسلمين (الساميين) اليوم: الوجه القبيح ذاته، والأنف الطويل والضخم هو نفسه".
إذًا، لا عجبَ في أنّه عندما انضمّ حوالي أربعة ملايين من الشعب الفرنسيّ في مسيرة من أجل قتلى شارلي إيبدو قبل ثلاث سنوات، لم يكن ساند واحدٌ منهم. فهو ليس من الذين يرفعون شارة "أنا شارلي"، فتقديره للمثقفين الفرنسيين لم يسعه لتعريف ذاته بتعريف رهاب الإسلام.
اقرأ/ي أيضًا: