أكثر من 6 سنوات منذ الشرارة الأولى للثورة التونسية ذات 17 كانون الأول/ديسمبر سنة 2010، والتي كللت بهروب الرئيس الأسبق بن علي مساء 14 من كانون الثاني/يناير 2011. لو ولد أحدهم في ذات التاريخ، لكان الآن تلميذًا في أحد المدارس. ست سنوات ليست بالفترة الهينة في حياة الأشخاص وقد عرفت فيها تونس تتالي عديد الحكومات والرؤساء والأحداث لكن ملفًا واحدًا لم يبارح مكانه، بل ربما يعود مع مرور الزمن إلى نقطة الصفر، إنه ملف شهداء الثورة وجرحاها.
كان تعامل مختلف مؤسسات الدولة والحكومات المتعاقبة بعد الثورة مع ملف شهداء الثورة التونسية وجرحاها "مريبًا"، ويفرض تساؤلات عدة
كان تعامل مختلف مؤسسات الدولة والحكومات المتعاقبة بعد الثورة مع الملف "مريبًا"، وهو وصف يطلقه المتابعون لأطواره. "ألترا صوت" يفتح هذا الملف ويحاول فهم أسباب تعثره، لماذا لم تصدر إلى اليوم قائمة واضحة بأرقام وأسماء الشهداء والجرحى؟ هل قوبل هؤلاء وعائلاتهم بالجحود والتهميش فعلًا؟ لماذا أفلت جل المتهمين في هذه القضايا من العقاب؟ وما مستقبل قضايا شهداء الثورة التونسية وجرحاها؟.
اقرأ/ي أيضًا: وفاة محمد الحنشي.. انتكاسة أخرى للثورة التونسية
قضاء عسكري، ملفات ملحقة وتوظيف سياسي..
تنظر المحاكم العسكرية في تونس في قضايا شهداء الثورة وجرحاها رغم أن القوانين والمواثيق الدولية تقر أن القضاء العسكري لا يمكن أن يكون إلا قضاء استثنائيًا، يتعلق بالعسكريين، وأنه لا يجب أن تعرض قضايا المدنيين أمامه، خاصة مع توفر شبهة لتضارب مصالح في الموضوع.
في هذا السياق، تشير ليلى الحداد، محامية عائلات الشهداء والجرحى، لـ"ألترا صوت" إلى، ما تسميه، "تورطًا، مباشرًا أو غير مباشر، للمؤسستين الأمنية والعسكرية في قتل المحتجين"، وتوضح أن الأمر يتعلق بالمؤسسة الأمنية خلال الفترة ما بين 17 كانون الأول/ديسمبر 2010 و14 كانون الثاني/يناير 2011، ويتعلق بالمؤسسة العسكرية ما بعد 14 يناير 2011، وتؤكد أنه "لا يمكن أن يكون القضاء العسكري بالتالي محايدًا خلال حكمه".
تحويل القضايا إلى القضاء المدني هو أيضًا مطلب عائلات الشهداء والجرحى اليوم، وقد وضّح بعض الممثلين عن هذه العائلات ذلك، خلال تدخلهم في جلسة الاستماع العلنية الأولى من تنظيم هيئة الحقيقة والكرامة، المنظمة لمسار العدالة الانتقالية في تونس، يوم 17 كانون الأول/ديسمبر الماضي.
لكن المدافعين عن أحكام القضاء العسكري، والتي تراوحت بين إخلاء سبيل المتهمين وتركهم في حالة سراح أو بعض الأحكام القصيرة ولم تطبق فعليًا في معظم الحالات، يرون أن المشكل الأساسي يعود لما يسمونه "فراغ ملفات القضايا من الأدلة والبراهين التي تؤكد تورط أمنيين أو عسكريين أو غيرهم بشكل واضح في القتل"، وهو ما تنفيه الحداد، إحدى أبرز المحامين المتابعين للملف في تونس، إذ تجيب عن استفسار "ألترا صوت" أن "الأدلة متوفرة خاصة في القضايا الكبرى كقضايا شهداء وجرحى تالة والقصرين والرقاب ودقاش وتوزر والإدانة ثابتة"، حسب تصريحات المحامية. وتضيف أن "الحديث عن غياب الأدلة هي محاولة لمغالطة الرأي العام من أجل قبر القضايا"، على حد تعبيرها.
تجدر الإشارة إلى أن نسبة مهمة من القضايا تم غلقها منذ سنوات لعدم معرفة الجاني أو لنقص الأدلة. والقضايا المعروضة للآن أمام القضاء العسكري هي التي تتوفر فيها جملة من المعطيات والبراهين التي يتصرف على أساسها المحامون. ومن النقاط السوداء في هذا الملف أن نسبة مرتفعة من جثامين الشهداء مثلًا لم تخضع للتشريح لتبين نوعية الرصاصة المعتمدة، وشهدت إخلالات في التعامل معها مما عقد كشف الحقيقة ومعرفة الجاني فيما بعد.
تشير الحداد خلال حديثها مع "ألترا صوت" إلى زاوية أخرى من الملف، وتعتبرها من أسباب انتكاسته وتعطله وهي، كما تقول "قضاء التعليمات". وتوضح: "للأسف جزء من القضاء في تونس لم يخرج من جلباب بن علي ولا يزال غير مستقل وغير محايد، لذلك كرست الأحكام الإفلات من العقاب".
وبغض النظر عن القضاء ودوره والأدلة وتوفرها من عدمه، يكاد يجمع المتابعون لملف شهداء وجرحى الثورة في تونس أن هناك إرادة سياسية لتهميش الملف أو تشتيته. فقد أُلحق بشكل دائم بملفات أخرى، ومنها ملف المنتفعين بالعفو التشريعي العام في فترة أولى، أو ملف ضحايا العمليات الإرهابية من أمنيين وعسكريين فيما بعد. وضاع بذلك الملف بين مزايدات وسجال طويل.
في هذا السياق، تقول ليلى الحداد لـ"ألترا صوت": "رغم أن الحكومات التي تلت اندلاع الثورة هي نتاج لهذه الأخيرة ولدماء التونسيين لكنها لم تكن وفية لمسار الثورة ولم تنصفه". وتوضح: "نلاحظ أن أغلب المتهمين أطلق سراحهم كما نلمس إرادة للتفاوض مع بعض الأطراف من النظام السابق والتوجه نحو سياق توافقي".
وما أشارت له الحداد، سبق لجزء من المجتمع المدني التونسي أن ندد به عند طرح مشروع قانون المصالحة الاقتصادية، من قبل رئاسة الجمهورية، والذي اعتبروه محاولة لتجاوز مسار العدالة الانتقالية والمرور لمرحلة المصالحة في إطار توافقات قد لا تضمن حق المتضررين. في الأثناء، لا ينفي رجال القانون أن بعض التشاريع التونسية لا ترتقي لمحاسبة المتورطين في القتل خلال المظاهرات.
اقرأ/ي أيضًا:برهان القاسمي.. الثورة التونسية تأكل أبناءها؟
رفض للأحكام وتمسك ببصيص الأمل..
أنتجت هذه العوامل مجتمعة أحكامًا متفاوتة لكنها لاقت كلها استياء عائلات شهداء الثورة وجرحاها، وغضب المتابعين للملف في تونس من مجتمع مدني وحقوقي. ومعظم هذه القضايا الآن في طور التعقيب، ومنها قضايا تونس الكبرى وتالة والقصرين.
يذكر أن الأحكام التي صدرت عن محكمة الاستئناف العسكرية في 12 نيسان/أبريل 2014 اعتبرت "كارثية" حينها، من قبل جزء واسع من الفاعلين في الشأن التونسي، حيث تم إطلاق معظم القيادات الأمنية، لكن تم تعقيب الأحكام فيما بعد. وأمام ليلى الحداد، وغيرها من محاميي قضايا شهداء وجرحى الثورة التونسية، "الفرصة الأخيرة"، إن صح القول، لينصف التعقيب والأحكام الناتجة عنه ولو جزئيًا الضحايا.
تأخر إصدار القائمة النهائية لشهداء الثورة التونسية وجرحاها أكد شكوك البعض في استهداف الملف خاصة مع تتالي الدعوات للإعلان عنها
وبعيدًا عن الأحكام، يصر الفاعلون في هذا الملف على إصدار القائمة النهائية لشهداء وجرحى الثورة التونسية، لكن تأخر الإصدار أثار موجة من الجدل خلال السنوات الأخيرة وأكد عند البعض فكرة استهداف الملف. أما على أرض الواقع فقد تم إحداث لجنة شهداء وجرحى الثورة بمقتضى المرسوم عدد 97 لسنة 2011، وهي لجنة لدى الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، هيئة استشارية تحت إشراف رئاسة الجمهورية، مكلفة بضبط القائمة النهائية لشهداء وجرحى الثورة، لكن هذه اللجنة وإلى الآن لم تستوف بعد أعمالها أو على الأقل لم تكشف عن نتائج عملها للعموم بعد.
تصف ليلى الحداد، محامية شهداء وجرحى الثورة، إحداث اللجنة بمحاولة "لإغراق الملف بهوامش عديدة، ليفقد قيمته ومصداقيته ورمزيته لدى الشعب"، ودليل ذلك، حسب قولها، إن إيداع الملفات لم يحدد بفترة معينة، وهو ما أدى إلى تراكم عديد الملفات المزيفة لدى اللجنة، كما أن "هذه الملفات سببت أذى للجرحى الحقيقيين خاصة بعد انتشار الموضوع في وسائل الإعلام وتركيز عدد من المسؤولين عليه".
تضيف الحداد: "الأرقام معروفة لكن الإرادة السياسية تقضي أن يبقى هذا الملف دائمًا كالجرح، ينزف حتى يتعفن وبالتالي يشوه وهذا ما يريدونه وهذا ما يحصل فعلًا، إذ قاموا بتشويه صورة الشهداء والجرحى عند الشعب التونسي، من خلال التركيز على تزوير عدد من الملفات والشهادات الطبية".
وكان رئيس الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، وهو المشرف على لجنة شهداء وجرحى الثورة، توفيق بودربالة قد قدم يوم 18 كانون الأول/ديسمبر سنة 2015 تقريرًا تضمن قائمة نهائية لشهداء الثورة للرؤساء الثلاثة (دون قائمة الجرحى)، لكن وبعد مرور أكثر من سنة، لم يتم نشرها للعموم في الرائد الرسمي ولم يتم الاطلاع عليها بشكل علني.
وهو ما أنتج تحركات مختلفة لدى عائلات شهداء الثورة وجرحاها، الذين احتجوا وطالبوا رئيس الجمهورية بالإمضاء على القائمة النهائية وتمريرها للنشر لكن لم يجدوا أي تفاعل إيجابي، حتى أن بعض جرحى الثورة، تعثر علاجهم وماتوا ومنهم محمد الحنشي، الذي توفي في 26 شباط/فبراير الماضي بعد صراع طويل مع رصاصة مقيتة دمرت حياته وكانت مخلفاتها قاتلة ورحل دون أن تعترف به الدولة رسميًا جريحًا لثورتها.
بدا ملف الشهداء والجرحى أقرب لأن يكون وقودًا للحملات الانتخابية، يوظف متى شاء الساسة لذلك ترك دون حل ومفتوحًا على كل السيناريوهات
وخلال جلسة استماع مساء الاثنين 9 كانون الثاني/يناير 2017 لرئيس الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، توفيق بودربالة، في مجلس نواب الشعب، أكد، في توضيح لأسباب تأخر إعداد القائمة لسنوات، أن "عمل اللجنة تطلب مدة زمنية طويلة في مرحلة جمع الملفات والنقاش حولها والتثبت والتدقيق في صحة المعطيات". وأضاف أن "التجاذبات السياسية عطلت عمل اللجنة في بعض مراحله".
ووضح بودربالة، خلال لقائه مع نواب اللجنة ذات العلاقة في المجلس ، أنه "تم ضبط القائمة النهائية لشهداء وجرحى الثورة ويقدر عددهم بـ7749 منهم 7363 جريحًا و386 شهيدًا"، مشيرًا إلى أن "القائمة تتضمن الذين سقطوا في جميع المحافظات التونسية منذ 17 كانون الأول/ديسمبر 2010". لكن هذا الإعلان يحتاج تفعيلاً بالنشر بشكل رسمي مع تحديد القائمة الاسمية، والتي ذكرت مصادر لـ"ألترا صوت" أن الإعلان الرسمي عنها قد يكون مع منتصف السنة الحالية.
لكن تأخر إصدار القائمة النهائية فُسر بشكل مختلف، البعض رجح فرضية لخبطة في النصوص إذ إن المرسوم عدد 97 لسنة 2011 المنظم لعمل اللجنة لا يطلب من الأخيرة أن تنشر القائمة النهائية بل أن تضبطها فقط، فيما اعتبر آخرون أن أمرًا حكوميًا صادرًا منذ 2013 يؤكد ضرورة النشر. ويرى البعض الآخر أن المسؤولين ربما فضلوا انتظار جهوزية قائمتي الجرحى والشهداء ليكون النشر بشكل متزامن.
مهما تعددت زوايا النظر في الملف، يصعب إنكار الريبة في التعامل معه سياسيًا، إذ بدا أقرب لأن يكون وقودًا للحملات الانتخابية، يوظف متى شاء الساسة، لذلك ترك دون حل ومفتوحًا على كل السيناريوهات. وفي انتظار إصدار القائمة والأمل البسيط في تعديل الأحكام القضائية وتطبيقها، يبقى مسار العدالة الانتقالية، عبر هيئة الحقيقة والكرامة، خيارًا أساسيًا لعائلات شهداء وجرحى الثورة التونسية.
اقرأ/ي أيضًا: