في سبيل تحسين صورتها الخارجية، تُظهر الحكومة السودانية وجهًا عامرًا بالايمان بقضايا الحريات وقبول الرأي الأخر، لكنها على أرض الواقع تلاحقها بشدة تُهم التضييق على الصحف وقمع الأصوات المعارضة. وبالرغم من أن الدستور يكفل حرية التعبير والتظاهر بصورة واضحة، إلا أنه كثيرًا ما يجلب غضب السلطة على المطالبين بممارسة تلك الحقوق.
شهد السودان الأسابيع الماضية حملة تضييق واسعة على الصحف والبرامج التلفزيونية، كادت أن تتسبب في أزمة دبلوماسية مع الاتحاد الأوروبي
ثمة قائمة خطوط حمراء سودانية يمنع الاقتراب منها دون جدال، كما هو الحال في كثير من دول العالم الثالث، يشتكي الصحفيون مرارًا من أن تلك القائمة قابلة للتمدد، وخاضعة في بعض الأحيان لتقلبات المِزاج السياسي، مما يوقعهم بسهولة في شباكها.
حملة تضييق واسعة
وشهد السودان خلال الأسابيع الماضية حملة تضييق واسعة على الصحف والبرامج التلفزيونية، لدرجة أنها كادت تسسبب في أزمة دبلوماسية بين الخرطوم والاتحاد الأوروبي، وذلك بعد أن أصدر الاتحاد الأوروبي والسفارة الأمريكية بالخرطوم، بيانًا ضد ما وصفوه بالقمع والانتهاك الذي يلاحق الصحفيين.
اقرأ/ي أيضًا: صحف السودان.. ما يريده الأمن!
وطالب البيان بتعزيز حرية الصحافة والرأي والتعبير في جميع وسائل الإعلام، بما في ذلك وسائط الإنترنت، معربًا عن القلق بشأن القيود المفروضة على الحريات في السودان، لا سيما فيما يتعلق بالمضايقات الجارية للصحف. إلى جانب ذلك تعهدت بعثة الاتحاد الأوروبي والسفارات الأوروبية المقيمة وسفارة الولايات المتحدة الأمريكية، بالمشاركة في حوار بناء مع الحكومة السودانية حول حرية الصحافة وحرية الرأي والتعبير، نظرًا لأهميتها في حماية حقوق الإنسان والديمقراطية، خلال الفترة المقبلة التي تشهد انتخابات 2020.
ونتيجة لذلك استدعت وزارة الخارجية السودانية، مطلع الشهر الجاري، سفير الاتحاد الأوروبي بالخرطوم، جان ميشيل ديموند، على خلفية لقاء وفد أوروبي أميركي بعدد من الصحفيين ورؤساء التحرير في البلاد. ونقلت الخارجية السودانية لسفير الاتحاد الأوروبي رفضها الطريقة التي تم بها الاجتماع، والتي "تجاوزت الأطر والأعراف الدبلوماسية التي يجب الالتزام بها"، وفقًا لبيان الخارجية الذي أشار إلى أن "الدعوة اتسمت بالانتقائية، خلافًا لما يوحي به بيان الاتحاد الأوربي من أن الاجتماع كان مع كل الصحافيين السودانيين أو الهيئات ذات الصفة التمثيلية لهم".
العقوبة بأثر رجعي
وتماديًا في العقوبة، استدعت السلطات السودانية رئيسي تحرير صحيفتي التيار والجريدة، بعد يوم واحد من استدعاء الخارجية لسفير الاتحاد الأوروبي، وقامت بمصادرة النسخ المطبوعة من أعداد الصحيفتين. وتم التحقيق مع رئيسي تحرير الجريدة والتيار، كل على حدة، حول مشاركتهما في اجتماع السفراء الغربيين بخصوص أوضاع الصحافة في البلاد.
حملة مصادرة الصحف بعد الطباعة كعقوبة بأثر رجعي، لم تتوقف رغم التوقيع على ميثاق الشرف الصحفي بين الحكومة ورؤساء التحرير، فظلت إدارات النشر تشتكي من الأضرار المادية والمعنوية التي تسببها تلك المصادرة، إلى جانب انتهاكها لحرية التعبير بالطبع، فيما تتحجج السلطات الأمنية بأن القانون يسمح لها بتقدير العقوبة المناسبة على كل من ينشر أو يبث مواضيع تمس الأمن القومي للبلاد.
وعطفًا على ذلك، أدانت "الشبكة العربية لإعلام الأزمات"، تلك المصادرات. وقالت الشبكة إن حرية الرأي والتعبير في السودان "تشهد تراجعًا مريعًا، يُعد الأسوأ من نوعه في الوطن العربي"، معتبرة أن ذلك "نتيجة طبيعية للهجمة الشرسة والحملة الممنهجة، التي توظفها السلطات السودانية لاستهداف الصحف والصحفيين"، والتي تتجاوز حدود القانون والدستور السوداني والتزامات حكومة السودان لمعايير حقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص للحوق المدنية والسياسية التي وقعت وصادقت عليها.
واعتبرت الشبكة أن الهدف من هذه "الانتهاكات" هو "إرهاب الصحفيين وتخويفهم، وتكميم الأفواه لصرف الأنظار عما يحدث في مؤسسات الدولة من تجاوزات وقضايا فساد".
هجوم على التلفاز
وبصورة مفاجئة انتقلت حالة التضييق من الصحف إلى القنوات الفضائية، حيث مُنع الكاتب الصحفي والإعلامي، عبدالباقي الظافر، من الظهور في شاشة قناة أم درمان، مع إيقاف برنامج "الميدان الشرقي" الذي يقدمه منذ نحو خمس سنوات.
ولم يأتي قرار الإيقاف مكتوبًا ولا مشفوعًا بالأسباب التي دعت إلى القيام بذلك، لكن الظافر اشتهر بكتاباته الرافضة لتعديل الدستور من أجل إعادة ترشيح الرئيس عمر البشير في الانتخابات الرئاسية 2020. وعلم "ألترا صوت" أن قرار إيقاف الظاهر، شمل كتاباته الصحفية وبرامجه الإذاعية، ما اضطره إلى اختيار طريق الهجرة ومغادرة البلاد بحثًا عن وسيلة لكسب العيش.
وبعد حلقة حوارية ساخة في قناة "سودانية 24"، مع قائد قوات الدعم السريع، الفريق محمد حمدان حمديتي، استدعت السلطات مقدم برنامج "حال البلد" بالقناة، الطاهر حسن التوم، وطلبت منه شفاهة التوقف عن الظهور التلفزيوني. وكتب الطاهر التوم على صفحته بفيسبوك قائلًا: "سيغيب برنامج حال البلد عن مشاهديه بسبب توجيهات صدرت اليوم من جهاز الأمن والمخابرات الوطني". وأوضح: "تم استدعائي قبل قليل وتم تبليغي بذلك".
وهاجم ضيف البرنامج حميدتي، والي ولاية غرب كردفان أحمد هارون، ووجه له اتهامات صريحة، إلى جانب الأسئلة التي كادت تفضي إلى كشف أسرار عسكرية بخصوص مشاركة قوات حميدتي في حرب اليمن بقيادة المملكة العربية السعودية، وهو غالبًا سبب إيقاف البرامج وصاحبه.
أزمة في البرلمان
المثير في الأمر، أن المواجهة انتقلت إلى ساحة البرلمان، وأصبح المجلس التشريعي طرفًا في أزمة التضييق على الصحف، وذلك بعد مقاطعة الصحفيين لأعمال البرلمان ليومين، احتجاجًا على منع زميلتهم من دخول المجلس الوطني.
فيما اعتقلت الأجهزة السودانية عددًا من الصحفيين أثناء تنفيذهم وقفة احتجاجية أمام مبنى المجلس الوطني، احتجاجًا على ممارسات البرلمان ضد الصحفيين ومنعهم من دخول البرلمان لتغطية نشاطاته، بعد أن منع دخول مندوب صحيفة "الأخبار" إلى مباني المجلس الوطني. واعتبرت شبكة الصحفيين في بيان لها، ما قام به المجلس الوطني، بأنه "تعسف مرفوض". وأضاف البيان: "لن ندع الزملاء والزميلات يخوضون معركة الحرية والكرامة مع سلطة القمع الديكتاتورية وحدهم".
مشروع قانون مثير للجدل
يذكر أن مسودة قانون الصحافة الجديدة، الذي دفعت به الحكومة لإجازته في البرلمان، ثم سحبته بعد اعتراضات واسعة؛ أثارت مخاوف الصحفيين والمدافعين عن الحريات. وجلبت مسودة القانون الغامض، التي تسربت أكثر من نسخة منها للدوائر الصحفية، السخط على الحكومة، لأنها تحمل موادًا تخول لمجلس الصحافة والمطبوعات الذي يتبع لرئاسة الجمهورية، توقيع الإجراءات والأحكام، لدرجة إيقاف الصحفي من الكتابة لفترة غير محددة.
دفعت الحكومة السودانية بمشروق قانون غامض يطلق يد السلطة التنفيذية على الصحافة، لكنها سحبته بعد موجة اعتراضات واسعة
ويسمح القانون المقترح أيضًا لمجلس الصحافة، بإيقاف الصحفي عن الكتابة، وبتعليق صدور الصحف 15 يومًا بدلًا من ثلاثة أيام، وبإيقافها أيضًا لفترة غير محددة، ربما تكون أسبوعًا أو عامًا. ما يعني خنق الناشرين بسلسلة مخاوف، وتعريضهم لما يمكن أن يكبدهم خسارات فادحة.
اقرأ/ي أيضًا: