بعد فترة من المعاناة والتأزم الصحيين، رحل المفكر السوري البارز صادق جلال العظم (1934- 2016)، أمس، في منفاه الألمانيّ، تاركًا وراءه مشهدًا عربيًا، وسوريًا على وجه الخصوص، في حالة من الاستعصاء والانسداد والانهزام، بعد رحلة فكرية شاقة قضاها محاربًا على جبهة الفكر العربي المعاصر، خاض فيها في وحول السجالات الحساسة التي مسّت منظمومة الأفكار والمعتقدات السائدة، وحفلت بالمواجهات الحادة مع الاستبداد بكلّ أشكاله.
في "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، حاول العظم تلخيص الأفكار التي أدت إلى الهزيمة الكبرى
بين الهزيمة التي ختمت الستينات، مرحلة الحراك التحرري، وصولًا إلى انفجار البركان السوري، كان على العظم أن يظل وفيًا للموقع النقدي الذي فرضته عليه الوقائع، والذي سبق وعبّر عنه في حوار قديم، أجراه عام 1995: "لو قال قائل لي، قبل هزيمة حزيران/يونيو 1967، بأنه سيأتي يوم أكتب فيه ما كتبت بعدها، لقلت إنه مجنون. بعبارة أخرى؛ قبل هزيمة حزيران/يونيو كنت أميل إلى طرف إبعاد نشاطي الثقافي عن حركة الأحداث الآنية، وإلى تأكيد استقلالية الشأن الفكري باتجاه التجريد إلى حد ما، ولكن بعد فاجعة الهزيمة وحدت نفسي مندفعًا -على الرغم من كل شيء- باتجاه الطرف الآخر من المعادلة، باتجاه الاقتراب أكثر فأكثر من حركة الأحداث الآنية، وحركة الشارع السياسي، لكن دون الالتصاق بها كمفكر".
اقرأ/ي أيضًا: صادق جلال العظم.. تفكيك الحب
ولد العظم لأسرة دمشقيةٍ عريقة، عرف أفرادها حضورًا في المجالات العامة، ومنهم من نشط في ميدان السياسة السورية لفترة طويلة، لم ينقطع إلا مع بداية حكم البعث في 1963. ترعرع صاحب "النقد الذاتي بعد الهزيمة" في لبنان، ودرس في الجامعة الأمريكية في بيروت، ثم نال شهادة الدكتوراه في "جامعة ييل" الأمريكية، عن أطروحته حول الفيلسوف الفرنسي برغسون، ثم عاد الى بيروت في 1964 ليبدأ التعليم في الجامعة الأمريكية التي تخرّج منها.
كانت صدمة الهزيمة العربية في 1967 ذات تأثير شخصي كبير عليه، وفيها فتح باب الجدل عبر كتابيه اللذين تليا سنة الهزيمة: "النقد الذاتي بعد الهزيمة" (1968)، و"نقد الفكر الديني" (1969)، وهما الكتابان اللذان جعلاه من أكثر المثقفين العرب إثارة للجدل.
في "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، حاول تلخيص الأفكار التي أدت إلى الهزيمة الكبرى، التي لم تصدر عن "مؤامرات خارجية"، بل عن عجز عربي مقيم، تتوازعه الشعوب والسلطات معًا، مع رفض كامل للتبرير باسم شعارات مستقبلية.
في "نقد الفكر الديني"، رأى أن المثقف العربي ممزق الوعي بين ثقافة يأخذها من الغرب، وثقافة يرثها من الشرق، لذا تتعارض في وعيه عقليتان، واحدة منفتحة على الماضي مساها "الذهنية الدينية"، وأخرى منفتحة على المستقبل سماها "الذهنية العلمية"، وعليه فالمثقف العربي يعيش صراعًا يحتاج إلى اختيار جذري.
رسّخ العظم فكرًا حواريًا في طابعه، من خلال السّجالات العديدة التي خاضها
اقرأ/ي أيضًا: صادق جلال العظم.. أنفاس الفيلسوف الأخيرة
في كتابيه المذكورين أعلاه، حاول صاحب "في الحب والحب العذري" فهم الشرط الضروري لمواجهة التحديات العربية الناتجة عن اللقاء بالغرب، عبر استيعاب الواقع المعاش بطريقة غير مقيدة، ولا موجهة، ولا محددة بالمعتقدات الجامدة، وبناء عليه رأى أنه لا بد من أخذ الطابع التاريخي للقرآن على محمل الجد، وأن يقرأ شأنَ نصوص الثقافات القديمة، وكانت وجهة نظره هذه قد قادته الى القضاء. برّأت المحكمة العظم، لكنه فقد عمله في الجامعة الأمريكية، التي خضعت لمزاج الجمهور، بدلًا من الدفاع عن حرية الفكر، وبقي العظم في بيروت ككاتب مستقل، حتى عاد الى سوريا كأستاذ للفلسفة الأوربية في جامعة دمشق، الذي بقي فيه حتى تقاعده في 1999.
رسّخ العظم فكرًا حواريًا في طابعه، من خلال السّجالات العديدة التي خاضها مع إدوارد سعيد وأدونيس ونديم البيطار والعفيف الأخضر... وغيرهم، ومع أشخاص مُفترضين مثل قيصر في كتابه "دفاعًا عن المادية والتاريخ". فضيلة ذلك الفكر الجدليّ أن الحوار الذي أثاره سيظل مفتوحًا.
اقرأ/ي أيضًا: